رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

رياح الانفصال العالمية وأزمة الدولة القومية

تجتاح العالم رياح الانفصال التى أخذت تهب على كثير من الدول فى تحد كبير للدولة القومية التقليدية التى استقرت على مدار عدة عقود منذ معاهدة وستفاليا 1648, فكثير من دول العالم تشهد حاليا نزعات نحو الانفصال كما رأينا فى إجراء كردستان استفتاء للاستقلال عن العراق, واستفتاء إقليم كاتالونيا للانفصال عن إسبانيا وقبلها رأينا انفصال جنوب السودان وتيمور الشرقية عن إندونيسيا وتتصاعد حاليا نزعات الانفصال فى نيجيريا فى إقليم بيافرا وفى الكاميرون وفى إقليم كيبك بكندا، ووصل الأمر إلى تصاعد الدعوات داخل ولاية كاليفورنيا الأمريكية للانفصال عقب انتخاب دونالد ترامب.

رياح الانفصال التى تهب على العالم تثير العديد من الملاحظات والإشكاليات:

أولا: إن النزعات الانفصالية لم تعد تقتصر على الدول النامية والفقيرة أو المتعثرة بل طالت الدول الديمقراطية والغنية, ورغم تباين الدوافع والأسباب من حالة لأخرى, إلا أن القاسم المشترك بينهما هو وجود حالة من الخلل السياسى والاقتصادى بين الدولة المركزية وبين الأقاليم التى تطالب بالانفصال, وهذا الخلل تعمق وتراكم ولم يتم معالجته بالطريقة الصحيحة مما دفع سكان هذه الأقاليم إلى اللجوء لخيار الانفصال كحل وعلاج لمشكلاتهم.

ثانيا: ساهم الدور الخارجى التدخلى ولعبة المصالح من جانب الدول الكبرى فى تزايد النزعات الانفصالية فى الكثير من مناطق العالم عبر تغذية الصراعات الطائفية والعرقية واللغوية فيها وتوظيف الجماعات الإرهابية لخدمة أجنداتها على حساب مصالح شعوب الدول الأخرى كما هو الحال فى سوريا والعراق.

ثالثا: هناك أزمة حقيقية تواجه الدولة القومية فى ترسيخ الهوية الشاملة وتحقيق التكامل بين الاختلافات العديدة للمجتمع الواحد، سواء كانت عرقية أو دينية أو لغوية أو جهوية وجغرافية مما دفع إلى تصاعد النزعات والهوية الفرعية, وهذا يرجع فى جزء منه إلى تصاعد النزعات اليمنية المتشددة والموجات الشعبوية التى عكست فشل المؤسسات التقليدية فى تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وتترتب على تلك النزعات المتشددة زيادة حالة الاستقطاب داخل المجتمع الواحد وتضاؤل فرص التعايش فيما بينهما مما قوى من خيار الانفصال.

رابعا: ساهمت العولمة بشكل كبير فى إزكاء روح الانفصال فى الكثير من دول العالم, الغنية والفقيرة, المتخلفة والديمقراطية, فالعولمة كانت تستهدف جعل العالم قرية واحدة تتراجع فيها الحواجز بين الدول والثقافات فى إطار ثقافة عالمية جامعة عبر قيم الحرية والديمقراطية, وبدلا من أن يتجه العالم نحو الاندماج والتكامل كما حدث فى بداية تصاعد العولمة فى التسعينيات من القرن الماضى عندما توحدت ألمانيا واليمن وبرزت العديد من التكتلات الاقتصادية الوحدوية مثل الاتحاد الأوروبى ومجلس التعاون الخليجى والاتحاد الإفريقى والنافتا وغيرها, أخذ العالم يتجه إلى تفكك تلك الاتحادات بعد تعرضها لهزات عنيفة مثلما حدث مع الاتحاد الأوروبى بعد الخروج البريطانى منه وتعثر كثير من دوله اقتصاديا. وهذا يعود بشكل كبير لاعتبارات اقتصادية متعلقة بالعولمة التى أدت ليس فقط لتزايد الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة, بل أيضا لتزايد الفجوة داخل الدولة الواحدة ما بين أقلية شديدة الثراء وأغلبية شديدة الفقر.

خامسا: خيار الانفصال ليس هو الخيار الأمثل بل هو كمن يهرب إلى المجهول دون أن يكون لديه رؤية واضحة حول المستقبل, فدولة جنوب السودان سعت عبر حروب دامية إلى الانفصال لكنها الآن أقرب إلى الدولة الفاشلة, كما أن استقلال كردستان لن يكون الخيار الأمثل فى ظل معارضة إقليمية شديدة يجعلها دويلة حبيسة, بل الأخطر أن حالة الانشطار التى تتعرض لها الدولة القومية إلى دويلات صغيرة ستؤدى إلى زيادة عدم الاستقرار السياسى والاقتصادى, وستشعل مزيدا من الحروب الإقليمية بل والحروب الأهلية داخلها.

من بين خيار الانفصال الذى ستترتب عليه العديد من النتائج الخطيرة وفى ظل صعوبة تحقيقه مع مقاومة الدولة المركزية والمواقف الدولية التى تخشى إن هى أيدت حركات الاستقلال أن تنتقل العدوى إليها, وما بين خيار استمرار الوضع الحالى كما هو بما يعنى استمرار الخلل والنزعات الانفصالية, هنا الخيار الثالث وهو المخرج الأفضل عبر الحفاظ على الدولة القومية، وتأسيس عقد اجتماعى جديد بين كل المكونات العرقية واللغوية والدينية والسياسية يرتكز على شراكة حقيقية مبنية على المساواة الكاملة وعدالة توزيع الثروة بين السكان وبين الأقاليم الجغرافية المختلفة, وتصحيح الخلل فى المعادلة السياسية لترتكز على الديمقراطية ومبدأ المواطنة الحقيقى الذى يساوى بين الجميع فى الحقوق والواجبات ونبذ كل صور التهميش والتمييز ومواجهة النزعات العنصرية والشعبوية والتطرف الدينى والإرهاب ومعالجة التفاوت الاقتصادى وإصلاح نظام العولمة.

الدولة القومية تواجه أزمة كبيرة وموجة رياح شديدة من النزعات الانفصالية التى قد تدفع إلى مزيد من الصراع والحروب الذى سيكون الجميع خاسرا فيها وتحتاج إلى مراجعة حقيقية للسياسات السابقة خاصة فى ظل وجود العديد من الدول الرخوة التى تشهد حروبا طاحنة مثل سوريا واليمن وليبيا وغيرها وهو ما قد يؤدى إلى انفراط عقد كثير من الدول القومية وتحدث هذه الموجة المزيد من اضطراب العالم.

لمزيد من مقالات د. أحمد سيد أحمد

رابط دائم: