رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ومن الجرائم ما يضىء العتمة أحيانا

نعم.. من الجرائم ما يضيء العتمة أحيانا حين تفوق دروسها ودلالاتها قدر الأضرار المادية الناشئة عنها، وإن بقيت الجريمة فى كل الأحوال سلوكاً مشيناً غير مشروع.
كيف يمكن لما هو مشين وغير مشروع أن يضيء مساحة من العتمة ؟ هذا بالضبط ما يصدق على الاتهامات الموجهة إلى مسئولة كبيرة فى محافظة الإسكندرية بتلقى رشاوى مقابل إخلالها بواجبات وظيفتها. ولأن القضاء لم يقل كلمته بعد فلست بمورد ذكر اسم المسئولة الكبيرة رغم أن وسائل الإعلام كلها قد تداولت الاسم فصار معروفاً. كما لن أتطرق إلى الوقائع محل الاتهام لأن هذا بالأساس عمل جهات التحقيق والقضاء. ما يهمنى هو مناقشة لماذا وكيف أضاءت هذه الجريمة (المفترضة) العتمة التى يستشعرها البعض فى مجتمعنا؟

نكون أمام جريمة تضيء العتمة حين نكتشف أنه ما زالت هناك جهات فى هذا البلد تخوض أشرف المعارك وأكثرها ضرورةً وضراوةً فى مواجهة العابثين بشرف الوظيفة العامة وحرمة المال العام، وفى مقدمتها هيئة الرقابة الإدارية التى تصاعدت همتها فى كشف الفساد إلى مستوى أظن أنها لم تصل إليه من قبل منذ إنشائها فى عام 1964. لا يكاد يمر أسبوع إلا ونسمع طرقات شجاعة بأيدى هذه الهيئة الساهرة، طرقات تصم الآذان على أبواب مغلقة فتستعيد الذاكرة معها أصداء قصيدة الراحل أحمد فؤاد نجم عن «البقرة الحلوب» التى تحلب قنطاراً لكن مسلوباً من أهل الدار. نكون أمام جريمة تضيء العتمة حين نقارن بين ما نطالعه اليوم وبين ما كان يُقال فى زمن سابق من أن ملفات الفساد كثيرة لكنها مُكدّسةٌ ومحفوظةٌ فى أضابير الجهات المعنيّة لم يكن يُكشف منها إلا ما تسمح به الأضواء الخضراء. أضواءٌ كانت تُمنح وفقاً لحسابات تستعصى على الفهم. فحين كانت تحق النقمة تخرج الملفات على الفور، أما حين تحلّ الحظوّة فإن الملفات تظل غارقة فى صمتها المقيم.

لم نعرف يوماً (ولم نفهم) السرالذى يجعل سلطة ما تتجاهل فساداً يزكم الأنوف مع أن أى سلطة يُفترض أنها تكتسب جزءاً من شرعيتها الأخلاقية حين تجعل من كشف الفساد وملاحقته التزاماً عليها وسياسةً لها. ولهذا يصعب أن نفهم هذا الضرب من التفكير لدى بعض المسئولين الذين يعتقدون أن كشف الفساد فى مؤسساتهم أمرٌ مخجل بمقولة «لا داعى للشوشرة» وهى مقولة خائبة وبليدة لأن ما يُخجل ويعيب حقاً هو تجاهل الفساد أو التستر عليه. نكون إذن أمام جريمة تُضييء العتمة حين يرى الناس أنه لا أحد فوق القانون، وأن الدولة أصبحت تتعامل مع المال العام باعتباره قوت الشعب، وتنظر إلى الوظيفة العامة باعتبارها جزءا من شرفها كدولة. حين تفكر الدولة وتتعامل بهذه الطريقة تتسع طاقة الأمل لدى الناس فى تحسن الأحوال وتزداد قدرتهم على تحمل المعاناة.

نكون أمام جريمة تضيء العتمة حين تكشف هذه الجريمة عن سقوط أقنعة صنف من البشر لم يكُفوا يوماً عن التظاهر بالحزم والانضباط والنزاهة بينما هم غارقون فى العسل المسموم المقطوف من المال العام والاتجار بالوظيفة العامة. فقد كان لافتاً ومثيراً أن يستعيد الناس مقاطع الفيديو على شبكة «يوتيوب» لنائبة محافظ الاسكندرية المتهمة بالرشوة وهى تؤدى بإتقان مدهش دور المسئول الغيور على المصلحة العامة. رآها الناس وهى تُزمجر وتتوعّد وتعطى الدروس فى مقابلات إعلامية وزيارات ميدانية دون أن يهتز لها جفنٌ. والواقع أن الظاهرة هنا ليست جديدة تماماً، ففيها مسحةٌ من ضحك كالبكاء جعلت البعض يستدعى العبارة الشهيرة للممثل الكوميدى الراحل توفيق الدقن أحلى من الشرف مفيش والتى كان يرددها فى مواقف مناقضة تماماً لمعنى الشرف. وفى الظاهرة جانبٌ سوسيولوجى عن ازدواجية الكلمة والفعل فى حياتنا جدير بأن يدرسه الباحثون فى علوم الاجتماع والنفس، وفيها أيضاً جانب قانونى ينشغل به علم الإجرام القانونى الذى زوّدنا بمصطلح إجرام ذوى الياقات البيضاء وهو مصطلح متداول علمياً يُغرى أيضاً بالبحث والدراسة.

نكون أمام جريمة تُضيء العتمة أحياناً حين تكشف لنا وتفيدنا عن قصور آليات ومعايير اختيار المسئولين فى بلدنا. لا أحد يتوقع بالطبع أن يكون المسئولون الحكوميون معصومين من الزلل والخطأ فهم فى النهاية بشرٌ مثل باقى البشر يصيبون ويخطئون لكن تبقى جريمة الإسكندرية ذات دلالة فريدة ومؤسفة لأن نائبة المحافظ المتهمة لم تكن بحسب ما كشف البعض فوق مستوى الشبهات، وشغلت من قبل مواقع عديدة من تلك التى تكثر فيها احتمالات الفساد، ورغم ذلك استمرت تصعد وتترقى حتى أنها أوشكت أن تتبوأ منصب محافظ عاصمة مصر الثانية لولا أن الله ستر لسبب لا نعرفه. وجه القلق أن واقعة الإسكندرية ليست الوحيدة إذ شاهدنا على مدى السنوات القليلة الماضية أشخاصاً تم اختيارهم لمناصب رفيعة لكن بعضهم لم يُكمل العام أحياناً وسرعان ما سقط موحولاً فى مستنقع الفساد. لا ننكر أن فى الأمر شقاً إيجابياً يكشف عن يقظة سلطات الدولة وعدم تقاعسها أو تسترها على فساد البعض، لكن يبقى الأمر السلبى الذى يتوجب الانتباه إليه هو كيف وافقت الجهات المعنيّة وهى كثيرة فى بلادنا على ترشيح هؤلاء ومعظمهم كانت تحوم حولهم الشبهات أو بالأقل التساؤلات؟

نكون أمام جريمة تضيء العتمة حين تكشف عن عوامل ومسببات نشوء الفساد وتفاقمه. فقضية الإسكندرية وربما غيرها تدور بالأساس حول مخالفات البناء والاستيلاء على أراضى الدولة. فى ظاهرة مخالفات البناء بكل الكوارث الإنسانية المترتبة عليها ثمة اعتقاد يلقى بالمسئولية كلها على الإدارة المحلية، والواقع أن مسئولية المحليات جزءٌ من كل. مشكلتنا الأساسية فى الكثير من الكوارث هى شيوع المسئولية بحيث أننا نرى الكارثة برؤية العين لكننا نعجز عن تحديد المسئول عنها لأن الذين تسببوا فيها كانوا حريصين منذ البداية على شيوع وتمييع هذه المسئولية. لماذا نضب خيالنا وخارت همتنا عن استحداث وسائل توجع مرتكب المخالفة وتجبره على عدم التمادى فى جريمته؟ أخشى القول إن هذه الوسائل معروفة ومتاحة لكن تطبيقها تكتنفه الألغاز البيروقراطية. أما ظاهرة الاستيلاء على أراضى الدولة فرغم ما شاب مواجهتها الأخيرة من تسرع هنا أو عدم تقدير هناك لحقوق المعدمين والفقراء فى مأوى فإن هذه المواجهة الشجاعة الشريفة بدت أنجح اختبار لمصداقية الدولة فى السنوات الأخيرة. باختصار كل كشفٍ لواقعة فساد فى هذا البلد قد يمثل بنفسه خطوةً صغيرة لكنه فى دلالته نقلةٌ كبيرة على طريق دولة القانون وإضاءةٌ تبدّد مساحات العتمة والإحباط لدى الناس.


لمزيد من مقالات د‏.‏ سليمان عبد المنعم;

رابط دائم: