رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

وجع الوجود

الموت ليس الحقيقة الوحيدة كما يشاع, ولا الحقيقة الكبري, ولا هو الحقيقة الأولي؛ بل هو ظاهرة من ظواهر الحياة وحالة من حالاتها, تفصيلة من تفاصيل مملكة الوجود الحي, تتعلق بمآل آحاده الفردية, عند توقف تيار الحياة في تلك الأفراد, دون أن يؤثر ذلك علي تيار الحياة العام العارم المتجدد بلا انقطاع. ملايين من أنواع وأجناس وفصائل وعائلات المخلوقات, تتولد منها مليارات الكائنات الحية كل يوم؛ حياة تتغذي علي الحياة, تنهشها, في توازن محكم لا يأبه بأوجاع الوجود الفردية, من لحظة الميلاد إلي لحظة الموت الذي هو كما رأينا مجرد تفصيلة في شلال الحياة المتدفق بلا توقف وبلا حدود.

الوجود لذيذ, وموجع؛ الحياة فاتنة, وقاسية ككل الفاتنات. أكتب هذه الكلمات وما سبقها في يوم ميلادي. وهو يوم ضئيل الشأن وليست له أهمية كحالة فردية؛ لكن البشر, أو كثيرون منهم, يحتفلون به ويحفلون, لما جُبل عليه الإنسان من نرجسية وتمركز حول الذات واغترار بها. إلا أن ميلاد شخص ما, الذي هو لا يمثل أهمية إلا لذلك الشخص نفسه, يختلف شأنه حين نتحدث عن ظاهرة الميلاد والاحتفال به علي المستوي الإنساني ككل, وما يمكن لهواة التفلسف من هؤلاء المحتفين المحتفلين أن يستولدوه في أمثال تلك المناسبات من أفكار وتأملات حول الحياة والموت والميلاد, ولذة الوجود ووجعه.

أكاد أن أعمم فأقول إن وجع الوجود يفوق لذته, ذلك إن أقمنا حكمنا علي الحالات الفردية: سواء آحاد البشر أوآحاد الأمم, مثل أمتنا العربية وعالمنا الإسلامي والعالم الثالث عموماً. لكننا إذا تجردنا وارتفعنا ووقفنا علي مسافة موضوعية تسمح لنا بإلقاء نظرة كلية علي مجموع ظاهرة الوجود الحي في هذه الأرض عبر ملايين السنين, للاحظنا ارتقاءً عاماً متواصلاً ربما يكون قد اقترب في الأمم المتحضرة ــ بعد تخبط حروب متصاعدة القسوة انتهت بمجزرتين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين ــ أقول ربما يكون ذلك الرقيّ قد اقترب في الأمم المتحضرة بعد ويلات تلك الحروب من حياة إنسانية لذتها تفوق وجعها. ليست يوتوبيا بالتأكيد, لكنها حياة تستحق أن تعاش, وبشر يولدون كل يوم تحت حماية مجتمعات تصالحت مع نفسها وأبدعت عقداً اجتماعياً قوامه احترام الفرد وتوازن الحقوق والمصالح الفردية في إطار رفاهة وسعادة المجموع. بالطبع هناك معذبون, بفعل المجتمع أو بفعل الطبيعة, لكن البشر هناك قطعوا ويقطعون باطراد مسافة كبري نحو حياة إنسانية سعيدة ورشيدة.

إذن النظرة الكلية الموضوعية تدعو للتفاؤل. إلا أن العواطف الذاتية في السفح القريب الواطئ للمعاناة الفردية والقومية اليومية, تعود بنا تلك العواطف إلي ذلك الحكم الانفعالي المتسرع, وإن كان لا يخلو من وجاهة, بأن وجع الوجود يفوق لذته. مع ذلك نحب الحياة ونحتفل بها, وبيوم ميلادنا, ويتجدد الأمل كل عام في ذلك العيد الشخصي بأن يكون العام الجديد في ملحمة وجودنا الصغيرة أجمل وأحلي من العام الذي سبقه, ومن الأعوام الكثيرة التي مرقت إلي الخلف ونحن نتطلع من نافذة ذواتنا في قطار الحياة المندفع بلا هوادة ولا رحمة نحو محطة اخيرة يتباري البشر من هلعهم إزاءها ويزايدون ويتزيدون في وصف الموت بأنه الحقيقة الوحيدة. بل هي الحياة يا أصدقائي. الحياة الكبري وليست حيواتنا الصغيرة. الحياة هي المضخة الأم, وما الموت إلا جنادل ونبات طفيلي كورد النيل يعترض تيارها المكتسح ولا يفلح في إيقافه.

هذه النظرة الكلية الموضوعية المتجردة للحياة هي ما يقلل في قلوبنا ولو مؤقتا ذلك الوجع الصغير الممض, وإذا تدربنا عليها تكون هي سبيلنا المتاح للسعادة, ولو لقطرة منها. وإن قطرة من لذة الوجود توازي أطناناً من أوجاعنا الصغيرة, إن نفذنا إلي اللُّب كما يفعل المتصوفة وبعض الفلاسفة.. أو هكذا نعزي أنفسنا ونخدعها حين يثقل علي قلوبنا وجع الوجود.


لمزيد من مقالات بهاء جاهين

رابط دائم: