رئيس مجلس الادارة
عبدالمحسن سلامة
رئيس التحرير
علاء ثابت
وفى البداية لابد من تحديد ماهى الخبرة؟ ومن هم الخبراء؟، فالخبراء أو أهل الخبرة لهم مواصفات معينة، وموقع معلوم، فهم يجمعون صفات ثلاث هي: أولا: العلم والمعرفة العميقة بموضوع تخصصهم، ومجال خبرتهم، وثانياً: التجربة الممتدة زمنيا، الواسعة تطبيقياً فى ذلك المجال، وثالثاً: أنهم يمثلون سلطة أو مرجعية يعترف بها الجميع فى مجال خبرتهم هذه المواصفات الثلاث: العلم والتجربة والسلطة هى التى صنعت مفهوم الخبرة، وهى التى حددت مواصفات الخبير، وبناء عليها نشأت المؤسسات جميعها، فى جميع المجالات، لأنه دون خبرة وخبراء لا تكون هناك مؤسسية أو مؤسسات. فى آخر لقاء معه؛ لفت انتباهى الدكتور محمود محيى الدين، إلى تصاعد النقاش فى العالم، خصوصاً الولايات المتحدة حول ظاهرة موت أو نهاية الخبرة والخبراء، وظهور أعمال علمية فى صورة كتب ودراسات؛ تتناول هذا الموضوع، ولم أكن قد قرأت شيئاً فى هذا الموضوع؛ فانطلقت بروح طالب العلم أبحث عن هذا الموضوع، فوجدت الكثير من الدراسات، ووجدت كتاباً رائعاً يغنى من يريد أن يفهم هذه الأطروحة بصورة شاملة وعميقة، هذا الكتاب من تأليف: توم نيكولس Tom Nichols، وعنوانه: «موت الخبرة: الحملة ضد المعرفة العميقة، ولماذا هى مهمة» وقد نشرته مطبعة جامعة اكسفورد عام 2017. فمع انتشار الإنترنت، وتوسع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، شهد العالم تحولاً كبيراً جاء فى البداية بالرئيس أوباما؛ الذى كان أول رئيس يأتى للبيت الأبيض متجاوزاً البنية التقليدية لوسائل الإعلام، وحراس البوابات، ثم بعده جاء الرئيس ترامب؛ الذى دشن عصر موت الخبرة والخبراء بأختياره فريقاً من المساعدين؛ معظمهم من غير ذوى الخبرة فيما كلفهم به، وكان هذا تعبيراً صارخاً عن نهاية عصر الخبرة والخبراء فى دولة تقوم فى كل شأنها على قدسية ومرجعية وسلطة الخبرة والخبراء. ولم يحدث هذا بصورة فجائية، وإنما جاء فى ظل حالة ثقافية عامة تجتاح الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الذى يدور فى فلكها؛ تتصف بمعادة التفكير الرشيد anti-rationalism، وكراهية النخبة anti-elitism، ومعاداة الثقافة anti-Intellectualism، وظهور العبقرى الذى علم نفسه بنفسه self educated genius، هذه الحالة رسختها التكنولوجيا الحديثة التى أتاحت المعلومات للجميع؛ بصورة أعطت انطباعاً زائفاً بأن المعرفة لم تعد حكراً على أهل الخبرة والاختصاص، الذين كانوا هم الأساس فى كل تقدم وتطوير، وهم من يتم اللجوء إليهم لحل جميع المشكلات، وهم أطباء الحضارة والاقتصاد والسياسة والإدارة، والتكنولوجيا وكل شيء على ظهر الأرض، وهم الذين قامت عليهم الحضارة الإنسانية عامة، والحضارة المعاصرة بصورة أكثر خصوصية. ومن أهم مظاهر هذه الحالة الثقافية، التى أسست لعصر انتهاء الخبرة وموت الخبراء، تصاعد دور العواطف على حساب العقل، وضبابية الفوارق بين الحقائق والأراء والأكاذيب، و سيادة حالة الإنكار فى مواجهة الحقائق العلمية، والوقائع السياسية والاجتماعية. هنا يصل المجتمع الى حالة يكون فيها الجهل فضيلة اجتماعية يعتز بها الإنسان، ويتصرف بناء عليها، وهذه الحالة هى التى جاءت بالرئيس دونالد ترامب لسدة الحكم فى الولايات المتحدة الأمريكية، وهى نفس الحالة التى جاءت بالرئيس الأسبق محمد مرسي، وهى ذاتها التى صاحبت تنظيم الإخوان منذ خروجه من السلطة وحتى اليوم، وسوف تصاحبه فى المستقبل مالم يمارس النقد الذاتى بصورة عميقة، وهى نفس الحالة التى تعيشها حكومة قطر، ويعيشها معها جميع المرتبطين بها قناعة أو مصلحة، وهى نفس الحالة التى يغرق فيها الرئيس التركى أردوغان. لقد أصبح شعار هذا العصر أن كل الحقائق هى حقائق بذاتها، ولا تحتاج إلى إثبات، طالما قيل إنها حقائق فهى كذلك، ولا حاجة للإثبات؛ حتى تلك التى ليست حقائق ولا علاقة لها بالحقيقة على الإطلاق وأن كل الأشياء من الممكن معرفتها، ولا يوجد شيء يستعصى على المعرفة، أو من الصعب أن نعرفه، وأن كل رأى فى أى موضوع هو صحيح مثل أى رأى آخر، ولا فارق بين رأى العالم ورأى الجاهل، فكل من يستطيع أن يعبر عن رأيه هو مساوٍ فى الحجية والسلطة المعرفية لأكثر الخبراء علماً وتجربة، والجميع على وسائل التواصل سواء، بل إن الجاهل قد يتفوق لأنه جريء وبذيء، ولا يتورع أن يسب الخبير بأقذع الألفاظ وأقبحها، ومن ثم ينتصر بسلاطة اللسان لا بسلطة الجنان أو العقل. الإنترنت مكن البشر من الوصول إلى معلومات أكثر، ولكنه فى نفس الوقت غرس فى عقولهم وهما كبيرا بأنهم يعرفون كل شيء، لأن الحقائق لا يمكن الوصول إليها من خلال عملية انتقاء عشوائية من ركام من المعلومات غير المنظمة، والوقائع غير المدققة، والأكاذيب كل ذلك يحتاج إلى قدرات منهجية لتمييز الحقائق من الدعاية، والوقائع من الأوهام، وهذه القدرات لا يملكها إلا الخبير فى مجال تخصصه، ولكن بين المعلومات ضاعت العلوم وضاعت الحكمة، ولم يعد للخبير شرعية أو سلطة معرفية، ولم يعد مرغوباً فى وجوده أصلا. هذه الحالة أوجدت مجموعات مثل كل التنظيمات والحركات الأيديولوجية والشعبوية كالمحافظين الجدد واليمين المسيحى فى الولايات المتحدة والإخوان فى العالم العربي؛ يعيشون فى فقاعة من صنع أنفسهم، ولا يقبلون من المعلومات إلا ما يؤكد روايتهم للواقع، وتمنياتهم للمستقبل، وعندما يواجهون بما يناقض روايتهم للواقع، أو يشكك فى أحلامهم وتمنياتهم للمستقبل، يضاعفون الجهود لإعادة تأكيد نفس الرواية ونفس الحلم، ونفى ودحض أى معلومة معاكسة لما يتمنونه، ويشككون فى مصدرها، ويعتبرنه عدواً، وهنا تصبح المعلومات المزيفة، والدعاية الزائفة حيوية جداً، وأهم من كل حقائق الكون. كل هذا خلق واقعا يغتال احترام الخبرة ويقتل الخبراء، ويقضى على فكرة المؤسسية والمؤسسات ذاتها، ويحول المجتمعات إلى حقائق لفظية أو لغوية لا واقع لها، ولا أساس مادى يسندها أو يبررها. هنا ينتهى الحوار الوطني، وينتشر سوء الفهم، وبذلك يضيع الأساس الذى قامت عليه الديمقراطية، وهى توافر المعلومات والحوار بين البشر حولها. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;