رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الموت فى فينيسيا

هكذا جرى الأمر معى بطريقة عكسية.

تعودنا أن نقرأ الروايات أولاً ثم نشاهد الأفلام المأخوذة عنها عندما تتحول لشريط سينمائى. ثم نبدأ رحلة المقارنات بين النص الروائى والفيلم والسينما، عادة نقول كروائيين إن الرواية أحسن من الفيلم. ونادراً ما سمعت من يدعى أن الفيلم أفضل من الرواية.

منذ سنوات شاهدت فى عرض خاص فى القاهرة فيلم الموت فى البندقية 1971، إنتاج فرنسى إيطالى مشترك. أخرجه وكتب له السيناريو: لوتشينو فيسكونتى. وهو من هو. استغرق عرضه 130 دقيقة. وقام ببطولته: ديرك بوجاردى، بيورن أندرسون. وقعت فى غرام الفيلم. ولأن العرض كان خاصاً لم أتمكن من معاودة مشاهدته مرة أخرى.

بعد سنوات اكتشفت وجود الرواية فى مكتبتى. ولا تتعجب عندما تفاجأ فى مكتبتك بكتاب ما. لا تسأل نفسك كيف تسلل؟ من أتى به؟ ومتى وقع هذا؟ والرواية صدرت 1912 منذ أكثر من قرن. ترجمها الشاعر بدر توفيق. ونشرتها روايات الهلال فى نوفمبر 1995. وتقع فى 130 صفحة. كانت الساعة منتصف الليل عندما بدأت عملية التعرف على الكتاب ، أتعامل مع الكتاب كما لو كان كائناً حياً. ورغم أننى كائن ليلى، إلا أن النوم جافانى، وعندما شقشق الصباح وشق صمت الليل أذان الفجر، كنت ما زلت أقرأ الرواية البديعة التى لا حد لجمالها.

الرواية لتوماس مان (6/6/1975 - 12/8/1955)، حاصل على جائزة نوبل فى الآداب سنة 1929. وهذه الرواية ليست من أعماله المهمة. هكذا قال نقاد الرواية فى العالم. ما أن يذكر اسمه حتى نتذكر روايات: الجبل السحرى، يوسف وإخوته. استغرقت كتابتها منه عشرة أعوام (1933 - 1942) أعاد فيها روائياً صياغة القصة المعروفة فى الإنجيل.

عندما حصل على نوبل. قالت عنه الصحف الألمانية أنه كاتب من الدرجة الثالثة، وإنه مؤلف عميل للديمقراطية. كرد فعل وتصفية حسابات رخيصة ضد احتجاج توماس مان الذى كان موجهاً ضد الانتهازيين الساعين إلى الكسب الخسيس، فى زمن قصير، على حساب المستقبل، ليس فى ألمانيا وحدها، بل فى أوروبا كلها.ترجمت له إلى العربية روايتا: عائلة بودنبروك. قال بعض النقاد إن نجيب محفوظ عندما كتب ثلاثية بين القصرين. كان متأثراً بآل بودنبروك. وعرفت من نجيب محفوظ أنه قرأ فعلاً آل بودنبروك. لكنى لم أجرؤ أن أسأله على علاقتها بالثلاثية. وهو لم يتكلم عن هذا. وترجمت للعربية روايته: تونيو كروجر. علاوة على جبله السحرى، ويوسف وإخوته.

البطل مشغول بقضية البحث عن التوافق بين الفنان والمجتمع، فنرى جوستاف فون أشنباخ، بطل الرواية كاتباً يواجه صعوبات متزايدة لكسب معركته ضد السأم، وأثناء إقامته فى فينيسيا، طلباً للراحة، يقع فى حب غلام بولندى يقضى عطلته، لأنه رأى فيه ما كان يتطلع إليه من تجسيد للتوافق بين الجسد والروح، ومن هنا يسمح لنفسه بالاستغراق فى حب الغلام إلى حد الإخفاق فى التماس طاقة تدفعه إلى مغادرة فينيسيا بعد أن غزاها طاعون غريب يصيبه ويؤدى إلى موته فى النهاية.

البطل يعانى من عدم اتفاق النقاد على مزاياه الخاصة - بطل الرواية وليس مؤلفها - فى عام 1918 صدر له كتاب نقدى بعنوان: «انطباعات إنسان غير سياسى». يتوصل لنتيجة أنه: ليس هناك شىء مقدس وليست هناك إجابات فى نهاية الحوار، أو حتى مجرد احتمال الوصول إلى رأى راجح. يكتب توماس مان عن بطل روايته - ونحن نقرأ عن بطل من خلال مؤلف هو البطل الأصلى - والتماهى بينهما والتداخل نجده كثيراً فى الرواية:

- منذ أصبحت حياته ميّالة للتأنى، ومنذ أصبح قلقاً من الناحية الفنية خوفاً من عدم التحقق، هذا القلق الذى يعانى منه خوفاً من الزمن الذى لا يتمنى ألا ينقضى مسرعاً دون أن ينجز تحققه المنشود الذى يكرس نفسه له تماماً. وألا يكون ذلك سوى وهم عار من القدرة على التجسد، بذلك أصبح وجوده الخارجى محصوراً فيما لا يتجاوز حدود هذه المدينة الجميلة التى أصبحت بالنسبة له وطناً محدوداً بالمنطقة الجبلية، حيث بنى لنفسه بيتاً ريفياً يقيم فيه أثناء الصيف الممطر.

وهو يعلم جيداً أن المشاعر تبتهج بطريقة نسبية وتقتلع بنصف الكمال، حتى أصبح قادراً على الإحساس الأكيد فى كل لحظة بالطمأنينة من إتقانه لفنه. لكنه هو شخصياً لم يكن سعيداً بذلك، فبينما كانت الدولة تضعه موضع الاعتبار والتقدير، بدت له أعماله خالية من شعلة الخيال التى كانت علامتها المميزة.

مثلما نضجت موهبته فى ظروف بعيدة إلى أقصى حد عن كل من الأشياء المبتذلة والأشياء الشاذة، نجحت فى نفس الوقت فى الاستحواذ على ثقة الجماهير العريضة. هكذا كان منذ صباه الباكر أيضاً، ملتزماً من جميع النواحى، بإثبات كفاءته فى أداء واجباته، وخصوصاً ما كان منها متجاوزاً للمألوف، فلم يعرف فى سنوات عمره الأولى طريق الكسل، كما لم يعرف الإهمال واللامبالاة التى يمارسها الشبان.

فهو لا يرضى بشىء أقل من التماسك، وتدعوه طبيعته إلى الظهور فى صورة تتفق مع البسالة، رغم أنها فى الواقع ليست من خصاله الطبيعية. وأن هذا النوع الخاص من البشر يعطى أفضل ما لديه مبكراً. لخصته كلمة «الصمود». وكانت أقصى أمنياته أن يحيا عمراً طويلاً. كان يكرس فى الصباح، بضمير صادق، ساعتين أو ثلاث ساعات لإبداعه الأدبى.

جاء عمله نتيجة لتجمع الجزئيات الصغيرة المتلاحقة يوماً بعد الآخر، لمدة طويلة من العمل المتواصل. ولكى ينجح أى عمل فكرى له قيمته فى إحداث تأثير فورى واسع وعميق، لا بد له أن يكون مرتكزاً فى أعماقه على تقارب خفى، يتمثل فى عقد الصلة الروحية بين المصير الشخصى لمؤلفه والمصير العام لمعاصريه.

إن جميع الأعمال العظيمة تقريباً تتميز بالتكامل فى حدودها الخاصة رغم أى شىء، رغم الغم والألم، والفقر والهجر، وضعف الجسم والمعاناة وآلاف العوائق التى تأتى نتيجة لذلك.

سؤال خبيث فشلت فى الهروب منه خلال قراءة الرواية: هل كان توماس مان يكتب عن تجربة خاصة؟ أم عن بطل من خياله؟.

لمزيد من مقالات يوسف القعيد;

رابط دائم: