رئيس مجلس الادارة
عبدالمحسن سلامة
رئيس التحرير
علاء ثابت
يؤرخ لنشأة علم الاقتصاد، عادة، بظهور كتاب آدم سميث الشهير (ثروة الأمم) فى سنة 1776. كانت هنالك كتابات كثيرة قبل ذلك فى الشئون الاقتصادية، ولكنها كانت تختلط بأفكار فى غير الاقتصاد، كالسياسة والاجتماع، بل حتى آدم سميث نفسه، الذى خطا خطوة كبيرة فى تحقيق الاستقلال لعلم الاقتصاد كان أستاذا للأخلاق وليس فى الاقتصاد. بعد ذلك بمائة عام، أى فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، خطا الاقتصاديون خطوة أخرى كبيرة نحو الاستقلال بعلمهم عن بقية العلوم الاجتماعية، عندما نشأت المدرسة النمساوية، وعندما نشر الفرنسى فالراس (walras) كتابا باسم مبادئ علم الاقتصاد الخالص (Pure)، والانجليزى مارشال كتابا سماه (مبادئ الاقتصاد) بعد أن ظل كاتب بعد آخر فى المائة عام السابقة يسمون علمهم «الاقتصاد السياسي». منذ ذلك الوقت زاد تخصص الاقتصاديين اكثر فأكثر، فأصبح من النادر أن يكتب أحد كتابا يغطى كل أو حتى معظم الموضوعات الاقتصادية (من توزيع الدخل إلى النمو الاقتصادى إلى التجارة الدولية إلى التضخم الخ)، بل اتجه كل كاتب إلى التخصص فى فرع معين من فروع الاقتصاد، مثلما حدث فى العلوم الاجتماعية الأخري. أذكر أنى عندما كنت طالبا فى كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، شكا بعض الأساتذة مما حدث من انفصال بين العلوم الاجتماعية والانسانيات، واقترحوا ان يعقدوا ما يسمى قاعة بحث (Seminar) يجلس فيها أساتذة من مختلف هذه الفروع للتخلص من الآثار السيئة للامعان فى التخصص، على أساس أن معظم المشكلات الاجتماعية لها جوانب متعددة، اقتصادية واجتماعية وقانونية.. الخ، ولا يمكن الوصول فيها إلى نتائج معنية بالاعتماد فقط على ما يكتبه أو يقوله كل متخصص فى فرعه، أو كما قال أستاذ شهير فى علم الاجتماع «ليس هناك مشاكل اقتصادية وأخرى سياسية وأخرى اجتماعية، هناك فقط مشاكل، وهى معقدة». حضرت بعض هذه الجلسات، وثارت فى المناقشة مشكلة أقرب إلى الفلسفة منها إلى الاقتصاد، فنظر الجالسون إلى استاذ الفلسفة لإبداء الرأى فإذا به يقول مبتسما (وبشىء من السخرية) «آسف، فأنا متخصص فى فلاسفة القرن الثامن عشر وهذه المشكلة تتعلق بالقرن الثامن عشر!». من الممكن إذن ان يصل التخصص إلى درجة يصبح معها من الصعب (وربما من المستحيل) الوصول إلى حلول حاسمة لبعض المشكلات المهمة. أذكر مثلا أنه عندما وقعت الأزمة المالية العالمية فى سنة 2008، وكان كثير من الاقتصاديين قبل وقوعها يتوقعون العكس بالضبط، أى انتعاشا اقتصاديا وماليا بدلا من الكساد، وذهبت ملكة بريطانيا إلى كلية لندن للاقتصاد والتقت بعض أساتذتها وعبرت لهم عن استغرابها أنهم لم يحذروا من حدوث الأزمة قبل وقوعها، فإذا ببعضهم يقول لها إن الخطأ ناتج عن الامعان فى التخصص، فضلا عن لجوء معظم الاقتصاديين إلى الاعتماد على النماذج الرياضية البعيدة عن الواقع بأسره، سواء كان اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا. قد نكون جميعا مستعدين للاعتراف بأن التخصص ربما قد زاد على الحد المقبول، ومع ذلك لا نكف عن الانشغال بجانب دون آخر من جوانب أى مشكلة طبقا لتخصص كل منا.. ومن النادر أن نجد من يغامر بتبادل الجوانب المختلفة معا، إذ يبدو أننا، نحن المشتغلين بالعلوم الاجتماعية، نفضل فى النهاية (وفق التعبير الساخر). أن نخطئ بدقة على أن نصل إلى الحقيقة بالتقريب! العالم كله سائر فى هذا الاتجاه. ففى العصر الذى يشهد ما يسمى «بثورة المعلومات»، يبدو أن الميل إلى التخصص ينتشر أكثر فأكثر، على الأقل لصعوبة الاحاطة بالمعلومات المتاحة فى أى فرع من فروع المعرفة، فما بالك بفروع متعددة؟ وانتشار استخدام الأساليب الرياضية يقوى أيضا هذا الاتجاه نحو التخصص، إذ يستبعد ما لا يمكن أو ما يصعب قياسه، فإذا بنا نكتفى بالاعتماد على الجوانب القابلة للقياس فى أى مشكلة. هذا بالإضافة إلى المزايا الاجتماعية التى يتمتع بها فى هذا العصر من يسمون «بالخبراء»، وهؤلاء يحرصون عادة على تجنب الخوض فى غير تخصصهم. نعم هناك اتجاه متزايد إلى المزيد من التخصص، ولكن الثمن الذى ندفعه لهذا الامعان فى التخصص ثمن باهظ، هذا الثمن الباهظ يتعلق بالتمييز بين المعرفة والحكمة. فالشخص الحكيم قد يكون أقل إحاطة بالمعلومات من شخص آخر واسع المعرفة، ولكنه أى الحكيم، قادر على التمييز بين المهم والأقل أهمية، ولا يشغل نفسه بتوافه الأمور، مثلما يفعل كثير من «المتخصصين». لمزيد من مقالات د. جلال أمين;