رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

البيت الأزرق.. جدل الدرامى والجمالى

عبر رواية تحتشد بالشخوص والتفاصيل، تختزن داخلها قدرا هائلا من مستويات التلقي، وينفتح خطابها على إمكانات تأويلية متعددة، يقدم الشاعر والروائى اللبنانى عبده وازن نصه الجديد «البيت الأزرق» والصادر حديثا عن «منشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف» منطلقا من فضاء مركزى ( السجن) يتحرك فيه بطله الرئيسى بول البطل الإشكالي، الذى يقرر الانسحاب صوب الداخل، جراء جملة من الأحداث الاجتماعية، التى تبدو مجلي لتأزمات سياسية، تبدأ منذ مولده(1975)، حيث ينتخب الكاتب تاريخا فارقا لبطله المأزوم، والمنكسر إلا قليلا، حيث الحرب الأهلية اللبنانية وما خلفته من مآسٍ وأهوال نفسية واجتماعية، ليبدأ اليُتم المعنوى لبول مبكرا، يتلوه يُتم مألوف يفارق فيه أمه بعد ثلاث سنوات من ولادته، ليحيا مع خالته التى تؤنسه حتى ترحل، فيدخل فى نوبة عارمة من الاكتئاب، يغادر معها كل شيء، ويصبح المشى المستمر بديلا عن العراك اليومى مع الحياة الصاخبة. يضع عبده وازن بطله المركزى فى متن المأساة إذن، تلك التى تعمقت بانفصاله عن حبيبته غادة، واتهامه غدرا بقتل الفتاة الفلسطينية «سامية مسعود» التى تعمل فى أحد النوادى الليلية، ويصبح الخرس موقفا من العالم، يختلط فيه الرفض باللامبالاة، هذا الخرس الذى يستمر مع بول أمام القاضي، ليحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما، ويصبح البيت الأزرق علامة على السجن الاحترازى الخاص بالمرضى النفسيين، وتأتى الإشارة النصية إلى عنوان الرواية فى جملة بول فى مذكراته:(اقتادونى بعد مغادرته إلى السجن الاحترازي، أو«البيت الأزرق» كما يسمونه).

تأتى حكاية بول بوصفها حكاية داخل الحكاية، فخط القص الرئيسى فى الرواية يبدأ من السارد الرئيسي، الذى يقدم لنا الحكاية الإطار (الأم)، حيث ثمة كاتب روائى يقدم على إنهاء روايته، ويبدو حائرا بين أكثر من نهاية، وفى أثناء ذلك تلوح ( ندى) الصديقة التى تمثل فى السرد ما يعرف بالشخصية الحافزة أو المحركة، حيث تدفع بخط السرد إلى الأمام، وتحمل معها عرضا للروائى المنهمك فى تخليق روايته، بإعادة كتابة مذكرات السجين الميت «بول أندراوس» التى تركها، وحمل مسئولية نشرها «الأب جورج» المتعاطف معه فى محبسه، والذى كان على يقين بأن بول لم يقتل قط.

لتلتقى الحكايتان إذن، ونصبح أمام راويين، أحدهما سارد رئيسي(الروائى الباحث عن نهاية مغايرة لروايته)، ويعد بطلا للحكاية الإطار التى تعد قاعدة تنطلق منها الحكاية الأخرى (حكاية بول أندراوس) بتفاصيلها المتعددة وشخوصها المتنوعين، بدءا من بطرس النجار، الجار الطيب لبول، ومرورا بالأب ألبير، وغادة، وسامية مسعود المقتولة، وطارق الأحمر رجل الليل الذى برأته النيابة العامة من الاتهام بقتل سامية، وجورج أو جورجينا المتحول جنسيا، ووصولا إلى ندى والأب جورج اللذين يربطان بين الحكايتين، ليجد الروائى (بطل الحكاية الإطار) نفسه متورطا فى الحكاية الثانية (حكاية بول) تورطاً يتجاوز إعادة إنتاج الكتابة، ليصبح بحثا مستمرا ذا منحى بوليسيا عن قاتل سامية مسعود، فيضع الاحتمالات، ويناقش الأدلة، ويصبح أكثر قربا من بول الميت، متعاطفا مع مأساته المستمرة منذ الميلاد وحتى الموت بالانتحار البطيء، وهذا التوحد النفسى يستتبع إغراقا أكبر فيما رواء الحكاية، ويصبح الأب ألبير وغادة منطلقين للفهم، ويبدأ عبده وازن فى كشف المسكوت عنه فى الأنساق الاجتماعية القائمة، فالأب ألبير يرتبط عاطفيا وجسديا ببول، ويبدو مضطربا من الداخل على رغم الوداعة التى يبديها، كما تبدو غادة فى حال من النفور الشديد تجاهه، محملة إياه مسئولية انفصالها عن بول قبل دخوله السجن، هنا تتداخل الحكايات، وتتقاطع، ويبدو الروائى (بطل الحكاية الأولى) متورطا فى حب غادة التى تبدأ فى الاقتراب منه، وكأنهما يعيدان إنتاج الحكاية المركزية (حكاية بول) من جديد على مستوى واقعى أيضا: (فى السادسة من مساء اليوم التالى وكان يوم أحد، اتصلت بى غادة، قالت فورا: أحبك يا بول، ثم استدركت يسرعة وسمّتني. لا تؤاخذني، قضيت ليلة السبت وصباح الأحد معكما، أنت وبول. كنتما معى لكنك أنت كنت الأقرب).

تقوم رواية «البيت الأزرق» على بنية سردية تعتمد التشويق الدرامي، فتأسر متلقيها منذ المفتتح وحتى الختام، ويحقق التشويق جانبا معتبرا من المتعة الفنية هنا، وتبدو لحظات التوتر الدرامى الدالة منتجة للسرد، كما تتجادل الحكايتان (الحكاية الإطار والحكاية المركزية)، وتتقاطعان، وينفتح النص معرفيا ودلاليا على جملة من التصورات الفلسفية والوجودية، ويحمل إحالات معرفية يتناص عبرها مع نصوص راسخة فى الأدب العالمي، من قبيل الإشارة إلى آنّا كارينينا لتولستوي، ومدام بوفارى لفلوبير، فضلا عن الحضور الدال المنتج للمعنى لدوستويفسكي.

يتسم السرد فى «البيت الأزرق» بالديناميكية، فالانتقالات بين المقاطع السردية سلسة، تلتحم فيها الحوارات السردية مع خط القص الرئيسي، كما تنفتح الرواية على الفنون البصرية، وخاصة السينما والمسرح، حيث تستعير عددا من تقنياتهما، بدءا من الحضور الواعد لآليتى الاسترجاع والاستباق فى الرواية، ومرورا بتقنية كسر الإيهام المسرحية، ووصولا إلى تقنية المشهدية البصرية التى تعتمدها الرواية فى مناطق عديدة من السرد.

وفى نص ديناميكي، يرى العالم ابنا للنسبى والمتغير، يتخلى راويه الرئيسى عن النهاية السكونية، حتى لو كانت انتحارا مأسويا يحفز المخيلة الإنسانية، ليتركها للمتلقى الذى يصبح قارئا منتجا للمعنى بدوره: (حذفت النهايات الثلاث بلا تردد. فكرت خلال الليل أن أدع روايتى بلا خاتمة. قلت ليختتمها من يقرأها كما يحلو له. ليجد لها النهاية التى يظنها ملائمة. لكننى فى تلك اللحظات قررت ألا أطبعها على ورق، قلت سأتركها فى أدراج الكومبيوتر الأشبه بكهف. هناك ستنام، قد أوقظها فى يوم ما، لا أعلم متى).

وبعد.. فى نص تنتفى فيه المسافة بين الواقعى والمتخيل، وينتج فيه الدرامى الجمالي، ويفضى الفلسفى إلى الفني، تبدو رواية «البيت الأزرق» مسكونة بحس تأملى صوب العالم، ومشغولة بما هو حر وإنسانى.


لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;

رابط دائم: