رئيس مجلس الادارة
عبدالمحسن سلامة
رئيس التحرير
علاء ثابت
عندما ذهبنا نحن المبعوثين إلى الخارج لدراسة الاقتصاد، منذ نحو ستين عاما، كان الموضوع الذى يشغل بالنا هو «التنمية الاقتصادية»: نريد أن نعرف أسرارها ثم نعود إلى بلادنا بالحلول السحرية التى تحول بلادنا من بلاد «متخلفة»، طبقا للتسمية الشائعة فى ذلك الوقت، إلى بلاد «متقدمة».كان الكتاب الذائع الصيت وقتها كتابا لمؤرخ اقتصادى أمريكى هو «والت روستو» عن مراحل النمو الاقتصادى Stages Economic Growth وقبلنا نحن طلاب التنمية دون تردد تقسيمة للتاريخ الاقتصادى للأمم إلى أربع مراحل: مرحلة المجتمع التقليدى ثم مرحلة التمهيد للانطلاق، ثم مرحلة الانطلاق وأخيرا ما سماه بمرحلة «انتشار مستوى عال للاستهلاك». كم كانت تعتبر نفسها سعيدة الحظ تلك الدول التى وصلت إلى هذه المرحلة الأخيرة، وفى مقدمتها فى ذلك الوقت، الولايات المتحدة الأمريكية التى اعتبرت قدوة لسائر الدول الراغبة فى التقدم الاقتصادي. حيث ان الهدف الاقتصادى كان يعتبر فى ذلك الوقت أسمى الأهداف، فقد اعتبرت الولايات المتحدة هى القدوة فى سائر الأمور، إذا صرفنا النظر عن ذوى النزعات الاشتراكية الذين فضّلوا النظام المتبع فى الاتحاد السوفيتي. لكن حتى هؤلاء سرعان ما بدأوا ينفضون عن الاشتراكية بعد أن شاعت أسرار التجربة الستالينية. من حيث تقييد الحريات السياسية والفردية، ثم بعد أن ظهر منذ أواخر الستينيات أنه حتى نجاحها الاقتصادى مشكوك فيه. شاعت أيضا فى الخمسينيات والستينيات تسمية الجزء الفقير من العالم بـ «العالم الثالث»، وهو الذى لا ينتمى إلى مجتمعات الغرب الصناعى المتقدم، ولا هو من الدول التى تدور فى فلك الاتحاد السوفيتي. هذا هو أيضا العالم «المتخلف» الذى يتنافس على كسبه المعسكران الكبيران، الغربى الرأسمالي، والشرقى الاشتراكي. هذا العالم «المتخلف» كان يتكون من دول إفريقيا، ومعظم دول آسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. بعد انتهاء الستينيات كاد يختفى وصف الدول «المتخلفة» وحل محله وصف «الدول النامية». وقد حدث هذا التغيير ليس بسبب تقدم ملحوظ فى أحوال الدول المتخلفة، بل بدافع الأدب من ناحية، إذ اعتبر وصف الدولة بأنها نامية أكثر تهذيبا من وصفها بالتخلف، وأيضا يدافع تشجيع هذه البلاد على الاشتراك فى سباق التقدم الاقتصادي. كان التقدم الاقتصادى يعتبر حينئذ أسمى الأهداف التى يمكن أن تسعى دولة إلى تحقيقها. وكان لهذا التقدم الاقتصادى مقياس بسيط للغاية هو ارتفاع متوسط الدخل. فالدولة تعتبر متخلفة إذا قل هذا المتوسط عن حد معين، ومتقدمة إذا تجاوز حداً معينا. حاول بعض الاقتصاديين والسياسيين الأكثر حكمة أن يضيفوا إلى متوسط الدخل معايير أخرى كانتشار التعليم مثلا أو درجة الديمقراطية والتمتع بالحريات الفردية، وأن يسموا التقدم الذى يأخذ فى الاعتبار مثل هذه المعايير، إلى جانب متوسط الدخل (التنمية الإنسانية Human Development) لكن ظل متوسط الدخل هو الأكثر شيوعا، فقد كان من الصعب الاتفاق على طريقة قياس التقدم فى هذه الأمور الاخري، إذ ما هى بالضبط الدولة «الديمقراطية»؟ وكيف يقاس مدى توافر الحريات الخاصة أو فقدها؟ مّر وقت طويل على انشغال الاقتصاديين بهذه الأمور، حتى أصبح من النادر الآن أن نصادف التمييز بين جزء من العالم وجزء آخر بأوصاف خاصة، ومن الشائق أن نتساءل عن أسباب ذلك. هل من بين هذه الأسباب أن الدول كلها قد دخلت السباق نحو التقدم الاقتصادي، ولم تعد هناك دولة «متخلفة» عن هذا السباق؟ أم أن تيار «العولمة» قد شمل الجميع فأصبح من الصعب أن تعتبر صفات معينة مقصورة على جزء من العالم دون غيره؟ لا شك أن لهذا العمل وذاك دورا فى اختفاء وصف «الدول المتخلفة»، لكن من الممكن أن نتساءل عما إذا كان هذا التطور مكسبا خالصا. من المفيد أن نتذكر أن بعض الكّتاب كانوا قد انتبهوا من البداية إلى أن وضع الدول الفقيرة كلها فى سلة واحدة، لمجرد اشتراكها فى انخفاض متوسط الدخل، يتجاهل أن هذه الدول ذات ثقافات مختلفة، ولكل منها تاريخ مستقل، وأن لهذا وذاك آثارا مهمة فى تشكيل نوع الحياة، بل حتى فى مستوى الرفاهة الاقتصادية، وأن محاولة علاج الفقر بزيادة متوسط الدخل، دون الالتفات إلى أثر السياسات الاقتصادية على جوانب الحياة الأخري، قد يكون بمنزلة (إلقاء الطفل مع الماء القذر) - كما يقول المثل الانجليزي- أى عدم الاكتفاء بالتخلص من الماء الذى استخدم فى تنظيف الطفل، بل جرى التخلص من الطفل نفسه، ربما إذن كان التوقف عن استخدام وصف التخلف فى وصف دولة ما، ليس لمجرد تحقيق هذه الدولة للتقدم الاقتصادى بل لتحقيقها بعض التقدم الاقتصادى مع فقدان أشياء أخرى تتعلق بعاداتها وتقاليدها التى لم يكن من الضرورى أو المفيد فقدنها أو بعبارة أخرى أن الدولة تقدمت اقتصاديا وفقدت نفسها. إن ما حدث فى الدول التى كانت تسمى متخلفة لم يكن مجرد تقدم اقتصادى بل كان تطورا اقتصاديا من نوع معين يمكن وصفه بـ «التغريب»، أى أنه جلب زيادة فى السلع والخدمات المستقاة كلها من حضارة أو ثقافة بعينها فاستبدل بنمط حياة بأكمله نمطا آخر، وأن هذا الاستبدال تم باسم «التنمية الاقتصادية» أى الخروج من «التخلف الاقتصادي» لكن جرى دفع ثمن باهظ من أجل ذلك يتعلق بأمور أخرى غير الاقتصاد. لمزيد من مقالات د. جلال أمين;