في عام 2004 أصدرت كتاباً عنوانه «مفارقة ابن رشد» ومفادها أن ابن رشد ميت في الشرق حي في الغرب. واليوم أكتب عن «مفارقة هيباتيا» ومفادها أيضاً أنها ميتة في الشرق حية في الغرب. ومغزي المفارقتين معاً أن الشرق يشتهي الموت فيستدعيه. وفي هذا المعني قال منَظر الثورة الأصولية الايرانية علي شريعاتي إن الشهيد لا ينتظر الموت بل يستدعيه. وقبل هذا وذاك أصدر أستاذي عبد الرحمن بدوي كتاباً في عام 1945 عنوانه » الموت والعبقرية« ومفاده موت الحضارة بسبب سيادة وجدان الليل بدلاً من قانون النهار، وسيادة هذا الوجدان يشي بالفناء، ومن ثم يكون الموت هو محور التفلسف.
ولكن مع بداية القرن الحادي والعشرين أصبح الارهاب هو محور التفلسف. ولكن اللافت للانتباه أن الارهاب كان مهدداً للتفلسف في القرن الرابع، وبالذات في فلسفة الاسكندرية التي كان يتزعمها الفيلسوف المصري أفلوطين. وُلد في مصر في عام 205 وظل بها إلي الثامنة والعشرين ثم قصد إلي الاسكندرية وتتلمذ لأمونيوس وظل يأخذ عنه إحدي عشرة سنة ثم ترك مصر واستقر في روما حتي موته في عام 270. فكرته المحورية تدور حول نجاة النفس من سجنها المادي وانطلاقها إلي موطنها الأصلي الذي هو عالم الحقيقة المطلقة. وهي فكرة تعود إلي أفلاطون مع فارق وهو أن أفلاطون كان يريد الاتحاد بهذه الحقيقة المطلقة، ومن هنا قيل عن فلسفة أفلوطين إنها أفلاطونية جديدة إلا أنها كانت موضع رفض من السلطة المسيحية.
ومع القرن الرابع حاولت الفيلسوفة هيباتيا التوفيق بين الأفلاطونية الجديدة والمسيحية، ولكنها اشترطت أن تكون هذه المسيحية خالية من أي معتقد منغلق علي ذاته، أي أن تكون خالية من مُلاك الحقيقة المطلقة فصدر أمر بابوي بضرورة قتلها. وقد نفذ هذا الأمر كهنة الاسكندرية. وإثر قتلها ماتت فلسفة الاسكندرية. ولم يجرؤ أحد علي أن يتحدث عن هيباتيا إلا في القرن الثامن عشر المسمي » عصر الأنوار«. فقد مدحها فولتير في قاموسه الفلسفي إذ قال عنها إنها كانت ملتزمة بقوانين المنطق ومتحررة، عقلياً، من التعصب الديني. وقال عنها المؤرخ الشهير جيبون في كتابه« انحلال وسقوط الامبراطورية الرومانية« إنها إمرأة متميزة وُلدت في عصر متعصب فقُتلت، ومن يومها والاسكندرية خالية من متاعب الفلاسفة.
ومع ذلك فالمفارقة هنا أنني عقدت مؤتمراً فلسفياً دولياً في القاهرة في نهاية عام 1983 تحت عنوان » الفلسفة ورجل الشارع«. وقد انتقد الدكتور زكي نجيب محمود هذا المؤتمر بحدة في مقال نشره في صحيفة الأهرام بتاريخ 23/1/ 1984 تحت عنوان »وإذا الموءودة سئلت؟« والموءودة هنا هي هيباتيا الذي تم مصرعها علي أيدي رجال غلاظ القلوب يحملون علي أعناقهم رءوساً خاويةإلا من الهوس وأخلاط الجنون. وشدوها إلي حبل ثم انقضوا عليها بالسكين ذبحاً.ثم اختتم مقاله بما قالته له هيباتيا عندما التقته في الحلم » إن أصدقاءك الأعزاء (وأنا بالطبع واحد من هؤلاء) قد ذبحوا الفلسفة ذبحاً، أو قل خنقوها بتراب الشارع«. وبعد عشر سنوات من نشره المقال التقيته في أحد حوارات دار الأوبرا فسألته: » أنت قلت إنني قد ذبحت الفلسفة في مؤتمر » الفلسفة ورجل الشارع« فهل مازلت عند رأيك؟ أجاب بحدة » وأعنف«.
والمفارقة هنا أيضاً صدور مجلة عنوانها » هيباتيا« من جامعة انديانا بأمريكا جذورها في »جمعية فلسفية للنساء«. وكانت الغالبية منهن لها منشورات مكرسة للفلسفة النسوية. ومن هنا كان صدور مجلة » هيباتيا« تحقيقاً للرؤية الواردة في تلك المنشورات، وتشجيعاً لنشر ضروب متنوعة من تلك الفلسفة. وكان الأجدر أن تصدر من مكتبة الاسكندرية أو علي الأقل تسهم في تحريرها. والآن مع صدور قرار جمهوري في 11/5/2017 من الرئيس عبد الفتاح السيسي بتعيين رفيع المقام وجميل الخصال والملتزم بإعمال العقل الأستاذ الدكتور مصطفي الفقي أثير السؤال الآتي: ماذا أنت فاعل بالفلسفة في مكتبة الاسكندرية لكي تعيد إحياء » فلسفة الاسكندرية« من غير ذبح علي نحو ما حدث لهيباتيا؟
جاء جوابه أرحب من الجواب المحدود والمتوقع من صياغة هذا السؤال وذلك في مقاله المنشور بجريدة الأهرام في 22/8/ 2017 تحت عنوان » البناء المؤسسي والاطار الفلسفي«. فكرته المحورية مبهرة ومذهلة وجديرة بإجراء حوار حولها. وقد أوجزها في بداية مقاله وهي علي النحو الآتي: يبدو أن واحدة من خطايانا في مراحل الاندفاع نحو التنمية الشاملة أننا نقوم بالتركيز علي الشكل دون المضمون مع التسليم منذ البداية أن الشكل جزء من المضمون أيضاً. ولكن الاقتصار عليه والتركيز علي إتمامه دون سواه يجعلنا معنيين بالبناء المؤسسي دون الإطار الفلسفي. والمغزي هنا أن لكل بناء من أبنية الدولة يلزم أن يكون لبنائه فلسفة. ومن بين هذه الأبنية بناء مكتبة الاسكندرية.
والسؤال اذن: ما هي فلسفة بناء مكتبة الاسكندرية؟ وفي صياغة أوضح: هل كان لهذا البناء فلسفة ملازمة لبنائه بحيث يقال »فلسفة الاسكندرية« علي غرار ما كان يقال عنه في زمن هيباتيا؟ ونجيب بسؤال: ماذا نعني بقولنا » فلسفة الاسكندرية«؟
نعني بها تياراً فلسفياً ينشأ استجابة لمقتضيات العصر التي تكون من هموم الفلاسفة. فإذا كان هَمَ الفلاسفة في زمن هيباتيا التأليف بين أفلاطون والمسيحية فما هو التأليف المطلوب الآن لتأسيس فلسفة الاسكندرية؟
ليس مطلوباً من الدكتور مصطفي الفقي تأسيس هذه الفلسفة إنما المطلوب منه إتاحة الفرص للتفلسف. ولكن ما العمل إذا كان التفلسف مختلاً في مصر بحكم تحكم الأصوليات الدينية؟ أظن أن الجواب صعب، ولكن مع الأستاذ الدكتور مصطفي الفقي تزول الصعاب.
لمزيد من مقالات مراد وهبة; رابط دائم: