رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

معارضة فكرة المساواة فى الميراث.. إعلان حرب على الحداثة

دعوة الرئيس التونسى، الباجى قائد السبسى، الأخيرة المتعلقة بالمساواة فى الميراث التى أثارت جدلا كبيرا فى تونس كما فى خارجها، جديرة بأن توصف بأنها ليست قضية تونسية مخصوصة، وتجاوزها للبعد التونسى المحلى، خلافا لمبادرات كثيرة أخرى أطلقها الرئيس التونسى، هى كونها متصلة أولا بمسألة حقوقية فى ذهن البعض، وببعد دينى فى أذهان أخرى.

أيا كانت منطلقات النظر إلى القضية، حقوقية اجتماعية أم دينية فقهية، إلا أنها تظل أشمل وأعقد من أن تقتصر مفاعيلها على الفضاء التونسى. تحولت القضية إلى مادة للنقاش العمومى فى كامل أرجاء العالم العربى، وهو أمر صحى محمود فى فضاء عربى ألف الرتابة والسكونية.

إلا أن دعوة الرئيس التونسى إلى تحقيق المساواة، وإتاحة الفرصة للمرأة التونسية بالزواج من غير المسلم، لا تتجاوز صفة الدعوة، ولم ترتق بعدُ إلى صفة القانون أو الأمر المتحقق، إذ أن الفكرة -أيا كان الموقف منها ومن مدى تحققها فى الواقع - هى تحويل المشروع إلى النقاش العمومى ثم إلى المداولة التشريعية فى البرلمان التونسى، إن كُتب لها ذلك.

المثير فى القضية وفى مفاعيلها هو الأصداء التى أنتجتها. الدعوة أنتجت ضجيجا فكريا وإعلاميا وسياسيا ودينيا، تجاوز الفضاء التونسى. هذا الضمير الجمعى الواسع معنى، أو يتصور أنه معنيّ بهذه القضايا، وعليه فإنه يتصدى لبيان موقفه من القضية وإن كانت تونسية، وللذود عنها أو مناهضتها وإن لم تتجاوز مستوى المشروع. فى الأمر حميّة دينية هنا، أو حماسة حقوقية مدنية هناك.

بين تونس ومصر ارتفع السجال حول الميراث وحول زواج المسلمة من غير المسلم، دفاعا أو رفضا، وما بين تونس ومصر اتحد المدافعون عن الفكرة مدججين بحجج من المدونة الحقوقية، كما اتحد المناهضون متكئين على براهين من الشرع والفقه والمدونة الدينية.

أدلى الأزهر بدلوه فى القضية، رافضا مبادرة السبسى. وللأزهر جدارة إبداء الموقف بالنظر لما يكتظ به تاريخه من أسماء وإسهامات وعلاقات متبدلة مع الساسة والحكام، ولاقى موقف الأزهر رفضا من التونسيين كما من المصريين، كما لاقى من بعض الأوساط الأخرى ترحيبا وتهليلا حتى من القوى التى انتقدت سابقا اصطفافه جنب النظام بعد ثورة 30 يونيو. وللنقد التونسى والمصرى الموجه لفتوى الأزهر وجاهة مشتقة من الحداثة المرجوّة فى البلدين، ومن النصوص الكونية الحقوقية.

فى كل هذه المفاصل، كان الأمر يبدو من عاديات النتائج التى تترتب عن المبادرات التى تفكر خارج الصندوق أو تتقصّد خلخلة السواكن، ولو أننا نستبعد أن هذا المقصد دار فى خلد الرئيس التونسى عندما ألقى كلمته الشهيرة يوم 13 أغسطس فى أثناء الاحتفال بعيد المرأة التونسية.

ما بدا مرفوضا فى هذا الضجيج السياسى والفكرى المترتب عن فكرة المساواة فى الميراث، هو أن يعمد بعض الكتاب المصريين إلى الذهاب بعيدا فى التفاعل، حدّ التطرف المشوب بسطحية الفهم وتهافت الموقف.

«هل سنحارب تونس؟» نص حبّره كاتب ينتمى لهذا «البعض» ممن كسر سياق النضج والرصانة فى التفاعل مع الحدث، دفاعا عن الفكرة أو دحضا لها. فى اعتبار أن تطرف الموقف كان نابعا من «بعض» هو إشارة إلى القلة، عددا وأهمية، وهو اعتراف بأن السجال، بوصفه قرينا للفكر، ينطلق من حرية إبداء الرأى المتاحة للجميع، على ألاّ يذهب الموقف إلى الدعوة أو التساؤل عن إمكان إعلان الحرب على تونس.

تكفى الإشارة إلى أن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أو جمعية النساء الديمقراطيات، أو منظمة العفو الدولية فرع تونس، أو المعهد العربى لحقوق الإنسان وغيرها من المنظمات لطالما نظمت حملات مطالبة بتحقيق المساواة بين المواطنين، اختلفت عناوينها وشعاراتها مثل الدعوة إلى المساواة الكاملة وإلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة، أو إلغاء عقوبة الإعدام أو حتى إلغاء فكرة دين الدولة من البند الأول فى الدستور (مادامت الدولة كيانا اعتباريا لا دين له) ولا نعتقد أن صاحب نص «هل سنحارب تونس؟» سيتردّد فى الدعوة للجهاد لو سمع بهذا المطلب الحقوقى القديم، سواء فى تونس أو فى مصر.

قضية المساواة فى الميراث هى قضية اجتماعية واقتصادية تتنزل فى علاقات الإنتاج والمنظومة الاقتصادية بشكل واسع. وهى قضية متاحة للنقاش العمومى، ولا حصر جغرافيا لها، بمعنى أنها لا تهم الحيز التونسى الضيق فقط، بل هى قضية تعنى كل العرب المسلمين، خاصة فى هذا السياق الموسوم بالحاجة الملحة للاجتهاد وإعادة النظر فى التراث الدينى، إلا أن كل مآثر التداول الجماعى فى الفكرة، وكل ما أحدثته من سجال سيعود بالفائدة على المرأة العربية بشكل خاص، وعلى المجتمع العربى الإسلامى بشكل عام وأيضا على فكرة فتح النقاش حول التراث ووضعه على محك المساءلة، لا تحجب وجود تطرف فى فهم المسألة.

الجهل بالقضايا المركبة التى تتطلبُ حدّا أدنى من الإلمام بالواقع الذى نشأت فيه، وبالبيئة السياسية والفكرية والاجتماعية التى أفرزته، يجعل من يتصور نفسه قادرا على أن يدلى بدلوه فيها، متهافتا ومتسرعا وسطحيا، ومتطرفا فى نهاية المطاف.

فكرة المساواة فى الميراث، سليلة نضالات الحركات المدنية والحقوقية فى تونس والتى دعا لها الباجى قائد السبسي، هى فكرة فى صميم الإصلاحات المجتمعية المرجوة فى تونس، وفى قلب شروط النهوض الاجتماعى، إذ تؤسس للمساواة التامة بين الرجل والمرأة، وهو مطلب لا يمكن مقارعته، دفاعا أو نقدا، بالحجج الدينية، إنما يقرأ بالمنطلقات الحقوقية الكونية المدنية، وهى أيضا سبيل نحو تكريس مقومات الدولة المدنية العادلة. وإذ أجمعت الأوساط السياسية التونسية على أن الدعوة منقوصة، إذا لم تتحول إلى مبادرة تشريعية تذهب مباشرة إلى تصويب ما اعترى مجلة الأحوال الشخصية من هنات وتقادم، فى اتجاه تكريس المساواة الفعلية، فإن النقاش القائم اليوم هو علامة صحية على الانخراط الواسع للمجتمع فى قضايا تهم الشأن العام، بدل سنوات العزوف والإقصاء، لكن المشاركة فى النقاش العام المفتوح اليوم حول هذه المسألة، وحول غيرها، يفترض أن يكون متسلحا بأدوات من جنس القضية، لا أن يستعير أدوات الحرب والجهاد ضد قطر عربى يحاول أن يجدد ترسانته القانونية والتشريعية.


لمزيد من مقالات عبدالجليل معالى;

رابط دائم: