من تجليات الرحمة الإلهية على العالمين كافة تكليفهم باتباع دين الإسلام طواعية واختيارًا؛ لملازمة جوهره وأحكامه لمعاني الرحمة ومظاهر السماحة وسمات التيسير في سائر أحوال المكلفين.
هذه قضية ثابتة محسومة عقلا وشرعًا وحسًّا، وتحمل في طياتها محاسن هذا الدين الحنيف الذي بنى أصل التكليف على قدرة المكلف واستطاعته، فإذا ما طرأت على المكلف أحوال وعوارض -طبيعية أو مكتسبة- تؤثر سلبيًا في هذه القدرة وتلك الأهلية بالإزالة أو النقصان أو بتغير بعض الأحكام وجدنا الشرع الشريف يحض على التخفيف وإتاحة الرخصة ورفع الحرج وإزالة المشقة في التكليف بما يناسب هذا العارض بحسب صفته مؤقتًا كان أو دائمًا على وجه حكيم.
ورغم وضوح هذا الأصل لم نجد من أهل التطرف والتشدد إلا إهماله حتى ضيقوا ما وسعه الله تعالى، بل تسبب صنيعهم الفاسد أن كروا على مقاصد الشرع وأصوله بالبطلان؛ لأنهم ولجوا دائرة الحكم بالكفر والردة فبادروا وأطلقوا مجازفة وتسرعًا أحكام التكفير والتبديع على كل مَن اقترف قولًا أو فعلًا مكفِّرًا ولو كان جاهلا.
لقد ألجأهم هذا التنطع والغلو إلى اختزال الأدلة وانتقاء النصوص على ما يوافق هواهم والتفتيش في نفوس الناس والترصد لأفعالهم وتأويلها على خلاف مقررات الشرع ومقاصده ومقتضيات الواقع، فضلا عن الافتئات على أهل الاختصاص، وعدم مراعاة توافر الشروط المحكمة وانتفاء الموانع المقررة في هذا الباب، والتي منها العذر بالجهل، الذي يمثل عارضًا مؤثرًا في أهلية الأداء للمكلف، حيث تستوجب هذه الأهلية تحقق صلاحية الإنسان لكون ما يصدر عنه معتبرًا في الشرع؛ مما قد يترتب عليه إسقاط بعض أحكام التكليف عن المكلف كالإثم مثلا.
واعتبار الجهل عذرًا شرعيًّا آتيا من جهة التخفيف والرخص التي لا تدل إلا على سماحة الإسلام وشمول رحمته بالخلق وفق ضوابط وشروط مقررة، فليس كل جهل يعد عذرًا بحيث ينتفي التأثيم معه، وإلا لكان الجهل خيرًا من العلم، ومن ثَمَّ قرر الأصوليون والفقهاء ضوابط للجهل الذي يعذر به والذي لا يعذر به، ويمكن رد مسألة العذر إلى أمرين؛ الأول: باعتبار رجوعها إلى المكلَّف نفسه وهو الذي يتمتع بأهلية أداء كاملة، بمعنى أنه لم يَعْرِض له أي من عوارض الأهلية سوى الجهل، وعليه فلا يعذر مَن هذا حاله سوى صنفين مِن الناس: أولهما: حديث العهد بالإسلام، ومَن نشأ بمكان بعيد عن العلماء، ومثلهما مَن كان يقيم ببلد يغلب عليه البدعة، ومَن كان بأرض غلب عليها أحكام غير المسلمين بالأولى. وثانيهما: مَن لم يمكنه التعلم، بحيث يكون الجهل في هذه الحالة مما يشق الاحتراز عنه، وذلك كأهل الفَتْرة وأزمنة اندثار آثار النبوة، فإذا وقع منه ما يقتضي الكفر لايكفر، على أن إمكان التعلم قد يكون بسؤال أهل العلم أو ببذل الوسع في القراءة والتحصيل، كما أنه -أي عدم إمكان التعلم- من الأمور التقديرية التي يترك فيها المرء وأمانته.
أما الأمر الثاني: فيرجع إلى متعلَّق الجهل، الذي هو الشيء المجهول، وضابطه يرجع إلى مدى ظهور المسألة المجهولة وانتشارها من عدمه، والذي يُفهَم من مجموع تقريرات العلماء بشأن هذه المسألة أن ظهور مسائل الشرع وذيوعها تُكوِّنه عدة عوامل تتجلى في جملة من الأمور، منها: أن تكون المسألة معلومة من الدين بالضرورة، بحيث يستوي في علمها جميعُ الناس، ومنها: أن تكون مِن المسائل المنصوص عليها في الكتاب أو السنة بالدلالة القطعية، أو أجمع عليها العلماء وتناقلتها الأجيال المتعاقبة، ومنها: أن تكون من المسائل التي لايتعذر على المكلَّف فيها رفع الجهل عن نفسه عادة؛ كأركان الوضوء والصلاة والصيام مثلا.
ومما سبق تتَّضح أهمية الوقوف على حكمة الإسلام من ربط التكليف بتحقق الأهلية الكاملة للمكلف لما في ذلك من إشارة إلى حقيقة الإسلام وإبراز محاسنه.
لمزيد من مقالات د شوقى علام ; رابط دائم: