رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

نهضة التعليم

عمّ الجهل والتخلف، وبلغ انحطاط العلم والتعليم فى مصر أدنى مستوياته فى أواخر العصر العثمانى؛ حيث لم يكن للعثمانيين ماضٍ فى العلم أو الثقافة لينقلوها إلى البلدان التى ألحقوها بامبراطوريتهم. واندثرت المدارس ودور الكتب التى أُنشئت فى عصر الازدهار المملوكى، واقتصر التعليم على الكتاتيب والأزهر، واقتصر التعليم الأزهرى قاصراً على العلوم الشرعية وبعض الحساب اللازم لضبط أحكام المواريث، وأما العلوم العملية فلم يكن لها أدنى نصيب. وحين تولى محمد على باشا حكم مصر عام 1805؛ قام بانشاء المدارس ونُظُم التعليم الحديثة، وأتى بالمعلمين من أوروبا، وأرسل البعثات التعليمية إلى الخارج، وأحدث نهضة علمية كبيرة فى سياق مشروعه لبناء مصر الحديثة.

وقد ارتبطت ثورة التعليم الحديث فى عصر محمد على بمعاركه للاستقلال بمصر عن الخلافة الامبراطورية العثمانية، وتلبية احتياجات بناء الجيش والأسطول والدولة الحديثة، وتوافرت امكانات تمويل نهضة التعليم بفضل التنمية الزراعية والصناعية، ووفر التعليم بدوره احتياجاتها. وأشير، أولا، الى أن بناء الدولة المركزية الوطنية القوية كان ركيزة انجازات مصر فى عهد محمد على. والأمر أن وظيفة الدولة- الحكومة- فى مجتمع زراعة الرى أضخم بلا ريب من الوظيفة المألوفة للدولة كأداة كبرى فى تغيير الإقليم، وإعادة تشكيله وتخليقه بالمشاريع الهندسية والعمرانية الكبرى والمنشآت النهرية، كما أوضح جمال حمدان. والصلة الوثيقة بين كفاءة الإدارة العامة وبين الاستثمار والإنتاج؛ إلى حد أننا لا نعرف بلداً يتأثر أهله بالحكم صالحاً أو فاسداً كما يتأثر أهل مصر، ولا نعرف بلداً يسرع إليه الخراب إذا ساءت إدارته كمصر، كما خلص شفيق غربال فى تكوين مصر!!

وثانيا، أن المعمور الزراعى قد تقلص بنحو 40% من المساحة الصالحة للزراعة فى الدلتا نتيجة كارثة البرارى، التى ترتبت على إهمال الأشغال العامة فى صيانة الرى، فتقلصت قاعدة الوطن المادية، فإمكاناته الاقتصادية والسكانية، فوزنه وحجمه البشرى والسياسى.. الخ، كما سجل جمال حمدان. وعشية حكم محمد على انكمشت الرقعة المزروعة بشدة، وتخللها البور فى كل مكان تقريباً، وطغت الصحراء على الأرض الزراعية، وهرب الفلاحون من الزراعة تحت وطأة ابتزاز الأموال. ومع ثورة الرى الدائم، التى دشنها محمد على، مُلِئت ثغراتُ البور المتخلل، وتمددت أطراف الأرض الزراعية، وبدأ استصلاح البرارى بجدية، وأضيف الرى الصيفى إلى الرى النيلى، وكانت مصر مزرعة شتوية قوامها الحبوب وأصبحت حقلاً منتجاً على مدى السنة، محوره القطن، وزادت المساحة المحصولية وعدد المحاصيل المنتجة. وقد بدأ بناء القناطر الخيرية فى 1843، فكانت من أولى قناطر الرى الحديث فى العالم كله. ورغم احتقار محمد على وإدارته للمصريين الفلاحين, ونظرتهم الى مصر باعتبارها ملكا لهم, فقد أيقنوا بنفس القدر أن مصر السعيدة المثمرة أفضل من مصر الكئيبة الجائعة, إذ سيصبح إنتاجها أكثر وحلبها أيسر!!

وثالثا، أن مشروع محمد على لتصنيع مصر بقيادة الدولة كان سبقا حقيقيا؛ حين لم تكن الصناعة الآلية والبخار معروفة على نطاق واسع فى أوروبا، وكان الكثير من مصانع مصر علي مستوى أرقى من الصناعات المماثلة فى أوروبا، وشملت العديد من خطوط الصناعة الحديثة, الآلية واليدوية, العسكرية والمدنية, واعتمدت على قوة البخار كما على القوى المحركة التقليدية, بل وأنتجت أدوات الصناعة وحتى الآلات البخارية نفسها, وانتشرت انتشارا واسعا عريضا فى الأقاليم والمدن الإقليمية. وكان الهدف توفير بديل للسلع المستوردة, وانتاج سلع جديدة مصنعة من مواد أولية محلية يمكن بيعها محليا أو تصديرها علي السواء. وجاء التوسع فى المنسوجات القطنية، التى تفجرت الثورة الصناعية على أساسها، فى وقت حدوث توسع مشابه فى انجلترا. وتسجل عفاف مارسو فى كتابها مصر فى عهد محمد على أن القنصل الفرنسي دروفيتي قد استهزأ من هذا المشروع الذي يريد أن يحول الى الصناعة أمة تكمن مصالحها الأساسية في الزراعة!! وذكر القنصل البريطاني بورنج أن صادرات مصر تزيد أربعة أضعاف عن وارداتها، وأنها أضرت بمبيعات المصنوعات القطنية الانجليزية!! وعندما رفضت الدول الأوروبية بيع السفن والأسلحة اللازمة, شجع محمد علي الاستثمار في الأسلحة والسفن, وما إن كانت المدافع والبنادق والقذائف تشترى حتى يتم نسخها على الفور بمصر. وأخيرا، فقد رفض محمد على فى البداية أن يصدق أن المصريين يمكنهم أن يكونوا عمالا صناعيين, فكانت أول مجموعة من الطلبة أرسلت للدراسة في الخارج من الأتراك. وفي عام 1815, كما سجل الجبرتي, قام مصري باختراع آلة لضرب الأرز بسطت كثيرا من هذه العملية, فقال محمد علي يبدو أن لدي المصريين استعدادا للعلوم؛ وهكذا صار المصريون يُدربون ليحلوا محل الأجانب. وأمر محمد علي بأن يجمع عدد من المصريين مع بعض من مماليكه في مدرسة سميت المهندسخانة, أي مدرسة الهندسة, وهنا تلقوا العلم علي أيدى عدد من الأوروبيين. وفي عام 1828 أرسل عشرة مصريين إلي أوروبا لتعلم الميكانيكا. وفي عام 1831 أنشئت مدارس فنية للذخائر الحربية والتعدين والهندسة والكيمياء التطبيقية والترجمة والزراعة واللغات والطب والصيدلة ورعاية الأمومة والطب البيطري, وفي هذه وغيرها من المدارس جرى تعليم وتدريب النخبة الوطنية, المدنية والعسكرية, للأمة المصرية الحديثة.

لمزيد من مقالات د‏.‏ طه عبد العليم;

رابط دائم: