رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

جدل الأنا والآخر

ليس في استطاعة الإنسان أن يحبس نفسه في قمقم الذات، لأن (الأنا) مجرد قطب لا يستطيع أن يوجد إلا فى حالة توتر، ولا أن يعيش إلا في علاقة مع قطب آخر، فالمرء يولد بمفرده، ويموت بمفرده، ولكنه لا يحيا إلا مع الآخرين وبالآخرين وللآخرين. وسواء قلنا مع سارتر «إن الجحيم هو الغير» أم مع جوته «ليس ثمة عقاب أقسي علي المرء من أن يعيش في الجنة بمفرده» فالمؤكد أن الوجود بدون الغير يبدو مستحيلا، إذ يلعب الآخر فى حياة الذات أدوارا مختلفة: أولها دور الكاشف الوجودى، عندما يقضى على حالة الوحدانية، أى تماهى الذات مع نفسها كوحدة وجودية، وهى الحالة التى يتحد فيها الوجود مع الماهية، قبل أن تدخل الذات فى علاقة بالآخر تفض تلك الوحدة، وهى الحالة التى يمكن وصفها بالأنانية، حيث التركيز المطلق على الذات. لكن مع بزوغ الغير وإدراك الذات له فى الحيز المحيط بها، تتحول تلقائيا إلى موضوع مُدرك، مثلما هى ذات مدركة، إذ تصير ذاتا وموضوعا فى الوقت نفسه، وتبدأ حالة التجاذب والتأثير مع الغير باعتبارهما موضوعات فى العالم، تبقى ماهيتها صانعة لتفردها، بينما تصوغ علاقتها بالغير كينونتها فى العالم الخارجى أى وجودها. فمع ظهور الغير فى الأفق تسعى الذات إلى التمايز عنه وتحديد نفسها فى مواجهته. وهنا تضطر إلى التضحية بتلقائيتها المطلقة بهدف رسم صورة لها ترضى الحس المشترك والقيم المرعية فى محيطها. يعنى ذلك تقييدا لحريتها من ناحية، وتطويرا لها من ناحية أخرى، إذ تسعى إلى الارتقاء بنفسها وتوسيع ممكناتها تأكيدا لحضورها فى العالم.

وهكذا يلعب الغير دور المرآة فى حياة الذات، ففى تفاعلهما يكشف لها أحيانا عما هو إيجابي فيها قياسا إليه، ما يزيد من جرعة الثقة لديها، على نحو يدفعها إلى الانجذاب إلى فلكه، فالنفس يشدها من تشعر معه بالارتياح والثقة، الأمم هنا كالأفراد، والكائن الشخصى مثل الكيان الاعتباري، لا فرق حاسم بينهما. وأحيانا أخرى عما هو سلبى فيها، ما يخلق لديها نوعا من التوتر، فمع الشعور بالنقص تتولد رغبة عميقة فى تجاوزه، ما يتطلب بذل الجهد، والدخول فى صراعات جوانية، بغية الترقى إلى صيغ للوجود أكثر اكتمالا، أو حتى بهدف التستر على قصورها، ومن ثم تنبع بذور الكراهية.

وثانيها دور المهدد الحياتى، الذى يقضى على حالة الأمن الذى تعيشه الذات، عندما تُضطر إلى الدخول فى صراع مع آخر على فرصة وحيدة أو فرص محدودة متاحة أمام جمع غفير يتصارع عليها كالوظيفة مثلا، أو الصفقة التجارية، فإما أن تقنص الذات هذه الفرصة أو تذهب إلي الغير، وهنا يصبح الآخر مصدرا للقلق والخوف، فمع نجاح البعض فى تحقيق ذواتهم يفشل كثيرون فى تحقيق الهدف نفسه، كما أن الناجحين اليوم قد يفشلون غدا، أو ربما كانوا قد عانوا من الفشل بالأمس. بل إن نجاح البعض قد يكون سببا لفشل الآخرين، وهو أمر يرجع إلى الطابع الجدلي للوجود الإنساني، وإلى علاقات التشابك الحياتى المعقدة فى كل المجالات خصوصا المهنية، فالمساحات التى يرغب شخص ما فى التمدد داخلها، قد تكون هى نفسها التى يطمح شخص آخر إلى ملئها، فإما أن ينجح الأول، وإما أن ينجح الثاني، وهكذا دواليك فى صراع تحسمه ليس فقط الإمكانيات التى يحوزها الشخص، بل وأيضا درجة التصميم التى يتمتع بها.

أما ثالثها فهو دور المثير الإيجابي، عندما يدور التنافس، مثلا، فى إطار المجال العام السياسي أو الرياضى أو العلمى، ليس على فرصة وحيدة بل فرص متعددة، يمكن معها أن يحقق الجميع ذواتهم وإن بأقدار مختلفة من النجاح. هنا يكون الغير مصدرا لقلق الذات، ولكنه القلق الدافع إلى التطور. فالطالب قد ينجح بتفوق وامتياز، ولكن من دون أن يمنع طالب آخر من النجاح أو التفوق، ربما بدرجة أكثر قليلا أو أقل قليلا. ولاعب الكرة قد يصبح نجما من دون أن يمنع اللاعبين الآخرين من أن يكونوا نجوما، يملكون قدرا من المهارة أو الفعالية ويحققون درجة ما النجاح، ربما أكثر قليلا أو أقل. والحزب السياسي قد ينجح فى التمثيل بدرجة أغلبية معينة ولكن نجاحه هذا لا يحول دون تمثيل أحزاب أخرى بدرجة ما، فالمنافسة قائمة ولكن المباراة غير صفرية، يخسرها الجميع إذا ما كسبها شخص واحد، بل تعددية يمكن أن يتشارك الجميع فى الفوز بها، وإن بنسب مختلفة.

فى هذا السياق يمكن القول إن الغير ليس شرا خالصا كما ذهب سارتر، ولا خيرا خالصا كما ذهب جوتة، بل جزء من الروح الكونية التى تنطوى على الأنا نفسها، مثلما ذهب الحكيم الصينى لاوتسو. إنه مرآة للذات تنعكس عليها فتنكشف لها طبيعتها الإيجابية أو السلبية، فهو حد لها، يخرجها من كمونها، أى من عالم الإمكان والماهية إلى عالم الوجود والواقع، لتصبح ذاتا وموضوعا للعالم فى آن، تدخل فى علاقة مع موضوعاته الأخرى، تتحول فى سياقها إلى فاعل وجودى. وهو كذلك منافس لها يستفز كل ملكاتها كى تخرج أفضل ما لديها ضمانا لأقصى درجات تحققها سواء فى موازاة الغير حينما يجرى التنافس فى مجال عام مفتوح، أو فى مواجهته حينما يكون التنافس على فرصة وحيدة. وهكذا يصبح الآخر بمثابة تحد ينطوى على مزيج من الفرصة والخطر معا، فمن دونه لا تعى الذات نفسها، رغم القلق الذى يسببه لها، ففى سياق منافسته لها تندفع هى إلى زيادة ممكناتها، وذلك على نحو مرهق يكاد لا يتوقف ولكن أيضا على قاعدة العدالة والمساواة، ومن ثم تنبع أهمية الحرية السياسية، ففى المجتمعات الديمقراطية، حيث يكون التنافس عادلا وسلميا، تزدهر الذات من دون الحاجة إلى القضاء على الآخر.
[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم;

رابط دائم: