رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

«برادعة جديدة».. فى قنا

فى يوليو 2009، انفجر بركان الخوف بقرية البرادعة فى القليوبية، استيقظ سكانها على مرض التيفود يضرب أجسادهم، امتد الذعر إلى بقية قرى بالبلاد، خاصة مع تضارب آراء المسئولين، حول أسباب الكارثة، هل هو تلوث المياه بالصرف الصحى أو الطعام بالكيماويات فى المصارف، كان الاهتمام الإعلامى دافعا لمسارعة الأجهزة الحكومية إلى تطويق الأزمة.

وقد تستغرب أن مأساة البرادعة هى سيناريو من السهل أن يتكرر بقرى الصعيد الجوانى، من عينة قرية «أبوشوشة-العضاضية»، مركز أبوتشت محافظة قنا، قرية تتمتع بموقع رائع، «ريفيرا» فى حضن النيل، يلقى عليها ظلا من سحره، عبقرية الموقع لم تنقذها من قسوة الكوارث المقيمة، يعاني أهلها تدهورا شديدا في الخدمات المختلفة، مياه الصنبور بنية اللون خريفا وشتاء، لا تصلح لسقاية الحيوانات، يلجأ الأهالى إلى المياه الجوفية عن طريق الطلمبات الحبشية، مياه ملوثة بالمخلفات الآدمية، المتسربة من «البيارات» لانعدام «الصرف الصحى» أساسا، بما يجعلها مصدرا للأوبئة، وينذر بكارثة صحية وبيئية، الموت المفاجئ زائر مقيم بالقرية فى غياب الرعاية الطبية.. تقدم الأهالى بشكاوى كثيرة- دون فائدة- لنقل مأخذ محطة المياه على النيل، إلى مكان أبعد بنحو 100 متر فقط، عن موضعه الحالى بالمياه الراكدة، والتى تزينها الجيف والفراخ النافقة، من «الترعة المرة» و«مصرف سلام» الذى يحمل مياه الصرف من قرى أبوتشت إلى «جوف النيل» على مرأى ومسمع من المسئولين، ولا حياة لمن تنادى، وأصبحنا ننتظر «برادعة جديدة» بأى لحظة.

أذكر أن اللواء عبدالحميد الهجان محافظ قنا وعد بحل مشكلات أبوشوشة والقرى المحيطة، بعد استغاثة الناس بالأهرام، منذ أكثر من عامين، لكن لا شىء تغير حتى اليوم، بل ازداد الواقع سوءا، تفجرت حناجر الأهالى بالشكوى للسماء، بعد يأسهم من تطنيش المسئولين، «الإهمال الرسمى» بعادة أصيلة بالصعيد، حتى يقيض الله له من يميط عنه اللثام، مثلما فعل الحاج حمام، أمام الرئيس السيسى فى المراشدة بقنا.

المياه القاتلة والشوارع القذرة غير المرصوفة والمدارس المتهالكة، أوجاع تتضاءل أمام البطالة الرهيبة التى تقارب 50% من شباب «أبوشوشة - العضاضية» وما حولها، يملأون المقاهى، أوينخرطون فى المخدرات تجارة وتعاطيا، نساء القرية لا يقربن الحقول، إما لأنها زالت بالتوسع العمرانى، وإما لانعدام فرص العمل للرجال أنفسهم، معظم سكان القرية ليس لهم دخل ثابت، «فقر رهيب» ينهش أرواحهم وأجسادهم، لا يخضعون لنظام تأميني، اكتفوا بالعيش على الحافة والتجاهل الحكومى، لا مركز شباب ولا ناد رياضى ولا قصر ثقافة ولا أحزاب سياسية.. إنها قرى التيه بالصعيد البعيد عن قلب القاهرة وأضوائها، والبعيد عن القلب بعيد عن العين.

لأجل ذلك لا نستغرب أن يسقط بعضهم فى فخ الجماعات الإرهابية، فالوظائف المتدنية إن وجدت تنال بشق الأنفس وبأشد الطرق مرارة، الوظائف العليا، كالقضاء والشرطة، محجوزة للصفوة والمقتدرين، فهى مرغوبة للوجاهة والمنازعة على الزعامة بين العائلات والعشائر والقرى.

للإنصاف، كان هذا حال الصعيد طويلا: أيام متشابهة عابرة للأزمان، حاضر مزعج والمستقبل مقلق، «إناء مملوء» بالمشكلات والاحتقانات، بخار هادر مكتوم تحت قشرة هشة، من الإهمال السلطوى وانعدام التنمية. قضى الأديب الكبير يحيى حقى فترة من حياته موظفا بالصعيد، اعتبرها نوعا من العذاب فى مجتمع «ملل وكآبة ووحدة وصمت يقطعه صوت طلقات رصاص يعقبه عويل» توقف فى روايته «البوسطجى» أمام حالة البؤس بوصفها ملمحا للأرياف. كم أطلقت الحكومات المتعاقبة من خطط لمحاربة الجهل والفقر، بوصفهما سببا لكل أنواع الخروج على القانون، الحكومة الحالية ليست جانية على الصعيد، لكن آن الأوان لتخليص أبنائه صانعى الحضارة منذ الملك مينا، من مرارة النبذ والإهمال. الصعيد اليوم أخطر بقعة فى مصر، وأفضل مكان للفرص الواعدة، ولا فائدة من أى شيء دون تقليل حدة البطالة المستفحلة بين الشباب، لا حل «مبدئيا» مع تآكل الرقعة الزراعية، إلا فى مشروع أوإجراءات حكومية، تعطى أملا للشباب المتعلم العاطل، إننا بحاجة إلى ملحمة حقيقية على أرض الجنوب، تفتح أبواب العمل والإنتاج، وتضع خطا على الرمال لمعضلات أهلها، ومن بينهم بالطبع قرية أبوشوشة-العضاضية، الذين ضاقت بهم السبل بسبب إهمال المسئولين، وربما تكون «بشرة خير» أن الرئيس السيسى يعطى أولوية لتنمية الصعيد، لاسيما مشروع المثلث الذهبى، ونرجو أن تتسع حلقات التنمية هناك، بعد قرون من الإهمال، حتى لا تصير مجرد «فورة» ثم تتجمد إلى درجة الصفر.

[email protected]
لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن;

رابط دائم: