دخلت إلى «ديوان الحياة المصرية بتعبير الأستاذ العميد طه حسين وأنا طالب فى كلية الحقوق لمقابلة لطفى الخولى بناءً على خطاب منه لنشر مقال لى عن «الشركات المتعددة الجنسيات، وتعدد جنسية الشخص الاعتباري» فى الطليعة وتقابلت مع الراهب الفيلسوف المتبتل أستاذنا أبو سيف يوسف، منذ اللحظة الأولي، ثمة هيبة وهدوء وصمت يجلل المكان وفضاءه، حيث تخايلك الحداثة والتحديث، والنظام الصارم، وسلاسة الأداء، واللغة الأنيقة والمتقشفه والمنضبطة تجرى على ألسنة العاملين.
الجدران الحاملة للوحات كبار الفنانين التشكيليين، لوحات أيقونية رامزة لرموز التصوير المصري، وبعض من القطع النحتية المتميزة لبعض اللامعين فى النحت المصرى المعاصر. فضاء مكانى وثقافى وجمالى وصحفى يحملُ فى أعطافه عراقة مهنية تاريخية، وفوائض من القيم شبه الليبرالية لازالت تعمل وتتحرك فى أروقة المكان وذاكرته، فى ظل الناصرية وسطوتها، ورغم الشعارات الكبرى للعروبة، وكتابها الناصريين والماركسيين، إلا أن ملامح استكمال القومية المصرية، تكاد تستنشقها فى ثنايا عبق المكان. كان الدخول الثانى لديوان السياسة المصرية الحديثة لمقابلة أستاذنا السيد يسين، الذى عرفنى عليه أستاذى د. حسام عيسى الذى قرأ دراساتى وتحمس لتقديمها إليه، للعمل فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، واتفقنا معًا فى منزله على موضوع للبحث حول الدولة والدين والنظام القانونى المصرى الحديث، وقدمت خطة الدراسة، التى كانت بداية اختبارى كباحث، ودخلت الأهرام مجددًا حاملاً بعض فصول العمل العلمي، تاركها له، ثم اتصل بى تليفونيًا لمقابلته فى منزله كى يخبرنى بأنه سيتم تعيينى مع صديقى د. وحيد عبد المجيد بعد عودته من سفر سريع لأمريكا.
شكل الأهرام حياة فى الحياة فى نسيج واحد، لبعض من عملوا به من جيلنا السبعينى وما بعد، لاسيما من كانوا يحملون همومًا وطنية وإنسانية تناسلت وتداخلت مع بعض السرديات الفلسفية والعدالية الكبرى التى سكنتهم منذ بواكير شبابهم الأول، وتطوروا فى ظلالها مع مكابدة البحث والاطلاع والانفتاح، وتبلور الحس النقدي، لاسيما الراحلين المقيمين محمد السيد سعيد، وأنس مصطفى كامل، ومشاغبات أحمد عبد الله رزة الشعبوية نصف السياسي، ونصف الأكاديمى وعبد العليم محمد وحسن أبو طالب والمحاورات والمجادلات التى كانت تدور رحاها فى الدور السادس، وإنماء السيد يسين للروح النقدية، ومعايير اختياره للباحثين الصارمة، وقدراته على المناورة، والحفاظ على استقلالية المراكز العلمية وعلى الجماعة البحثية الشابة وبعضها كانوا ذوى جذور سياسية رافضة ومتمردة على الأجيال السابقة وسردياتها وتجاربها فى إطار من الاحترام، والنقد. كان حريصًا على هيبة واستقلالية المركز عن الأهرام فى إطار المشاركة فى عملها-، دون خضوع لضغوط السلطة الحاكمة وأجهزتها، والمشاركة فى تبرير سياساتها. كان الدور السادس بوتقة تفاعلات وحوارات واستماع للصفوة المتميزة من كبار المفكرين والكتاب، توفيق الحكيم، وزكى نجيب محمود، ونجيب محفوظ، وبنت الشاطئ، ويوسف إدريس، وحسن باشا يوسف، وبطرس غالي، ومحمد سيد أحمد، ولطفى الخولي، وأستاذنا أبو سيف يوسف بعد انتقاله إلى المركز وداخل المركز د. على الدين هلال، ود. سعد الدين إبراهيم، حوارات فى الغرف، وفى المطعم، عالم من المحاورات الكبري، والجدل والانتقادات، وخطط البحوث السنوية، وإنجازها والنقاش حولها فى اجتماع الهيئة العلمية، ومجلس الخبراء. عالم يموج بالأفكار الجديدة والاطلاع على أهم الكتابات فى العلوم السياسية، والفلسفة، والاجتماع، ومتابعة التغيرات الكبرى فى أقاليم العالم الفرعية. انهيارات فى النظريات والرؤى والأفكار، وتوق عارم للتعلم فى الجامعات الكبرى فى أوروبا وأمريكا، وفى ذات الوقت عالم من القيود والضوابط الصارمة على حرية الفكر والتعبير، ومعتقلات للأفكار التى لا يتم تبادلها إلى فى محاورات محدودة بين أصدقاء
استفاد مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية من فائض الهيبة والوزن التاريخى وموقع الأهرام على خريطة الصحافة العالمية، وأضاف إلى هذه الهيبة والنفوذ مكانة أخرى تمثلت فى دوره الرائد إقليميًا الذى حققته الجماعة البحثية وبعض من ألمع باحثيه فى عديد التخصصات، واستطاع أن يحقق استقلالية نسبية فى كتاباته وتحليلاته للأزمات والتطورات السياسية فى الإقليم والعالم ومصر. قدم باحثو المركز لغة جديدة فى الكتابة الصحفية وانتقلت بها من مجال مقالات الرأى من الفكر اليومى بتعبير كمال حمدان واللغة الانطباعية والتأملية العادية، إلى لغة التخصص، ومن العفوية إلى الرصانة وعمق التحليل، فى المقال والدراسات الوجيزة. لغة جديدة بدت صعبة ومقدمة إلى العقول المثقفة، وليست إلى القارئ العادي، لكنها شكلت نقلة، لاسيما بعد أن سلست بالكتابة التأصيلية حول اليومى والسياسى والاجتماعى والاقتصادي. استطاع بعض باحثى المركز أن يتحايلوا على الضوابط الصارمة من خلال ما أطلق عليه نظرية تهريب المعاني، وهو استخدام الحيل الرمزية وبعض الوقائع فى السياسة العالمية، وتحميلها مرموزات نقدية لما يحدث فى عهد السادات وتقييم أفكاره وأدائه. فى بعض الأزمات الكبرى وعلى الرغم من الخلافات فى بعض القضايا السياسية الكبري، كان بعضنا يميز ما بين القضايا والمصالح القومية المصرية العليا ـ للدولة / الأمة ـ ، وبين المواقف السياسية للنظام، وهو ما ظهر فى بعض الأزمات مثل المفاوضات حول الحكم الذاتي، وإعداد سيناريوهات للتفاوض فى الحد الأعلى والأدنى الذى لا يمكن التنازل عنه فى ضوء دراسات نقدية معمقة للمشروع الإسرائيلي، وللمشاريع التاريخية التى تمت، وتم ذلك بقيادة السيد يسين، ومحمد السيد سعيد، ونبيل عبد الفتاح مع رئيس وفدى التفاوض. فى أزمة الخليج الثانية. كان هناك دور كبير لعبته الجماعة البحثية، أشار إلى بعضه هيكل فى كتابه عنها، وكان عملاً جماعيًا متميزًا ومؤثرًا، شارك فيه الباحثون ونسق عملهم أسامة الغزالى حرب. فى قضايا قومية مصرية عديدة، كانت المصالح العليا للأمة والدولة هى المحرك وكان الأهرام هو الإطار، وكان التمييز بين الخلافات فى الرؤى مع السلطة الحاكمة وبين مصالحنا القومية المصرية والعربية. كان الأهرام بيئة تحديث فى التنظيم الإدارى ورائدا فى التطوير التقنى حتى الثورة الرقمية، وكان يشع بالحداثة الفكرية فى الفكر، من خلال إعلامه الكبار ساكنى الدور السادس، وبعض كبار الصحفيين المثقفين، وكان تعبيرًا عن ثقافة المدينة وتألقها وسلوكها المتأنق، فى نظام الزى للصحفيين، والصحفيات، وفى اللغة اليومية للتفاعل والتواصل ومحمولاتها المدنية المشرقة والراقية والمهذبة. كان الأهرام المؤسسة وبعض مفكريه وصحفييه والعاملين فيه يعبرون عن محاولة الأمة المصرية الانعتاق من معتقلات الفكر النقلى القديم والحديث، والخروج من أسارهما، بحثًا عن مسارات جديدة للهاث وراء عصور متغيرة هادرة بالتحولات فى الأنساق والسرديات الكبرى إلى ما بعدها، وانهيار عوالم ورؤى وأفكار ولغة لم تعد صالحة لتفسير ما يدور حولنا وداخلنا، والبحث عن رؤى جديدة، ولغة مختلفة ومفاهيم قادرة على إمداد مصر وعالمنا العربى بمفاتيح لفك أسرار عوالم جديدة تتشكل أمامنا، وغالبُ من حولنا مصريًا وعربيًا، يعيدون إنتاج أفكار ولغة ومفاهيم غادرتها معانيها وقدرتها وكفاءتها على تفسير ما يحدث حولنا وبنا. سنوات من العمر الجميل والأحلام المشرعة على عالم جديد نبحث لمصر عن مكانة ودور ورسالة من خلال الأهرام ومركز الدراسات، ويبدو أننا لخصنا مآلات ذلك باكرًا، فى ندوة مغلقة فى عهد الرئيس الأسبق أنور السادات فى ورقة حجبت عن التوزيع على المشاركين والنشر حتى الآن حول نموذج الانفتاح وتحليل الأطر المرجعية التى انطلقت منها أفكاره وهى «الانفتاح كنموذج للتنمية: تأصيل التبعية وتشويه الذاتية الحضارية»، وورقة إبراهيم نوار» نهاية الطموح لبناء قوة اقتصادية مستقلة»، يبدو وكأنهما نبوءة واستشراف مآلات حركة دولة ونخبة ونظام، وترييف شامل فى الأفكار والقيم والثقافة ورؤى العالم المتغير الذى يبدو أنه يغادرنا .. كانت عقود حافلة من الأمل والألم والقنوط والحلم، والرغبة فى التحرر الذاتى والوطني، لا تزال تشكل جزءًا من ذاكرة المكان والأروقة والأشخاص والصداقات والخلافات والتوافقات، لا تزال ظلالها حية ومشعة فى المكان، وتستطيع أن تلتقط بعض أصواتها حية ومقيمة ولم تغادر تاريخ الأهرام، كجزء من تاريخ مصر الدولة والثقافة والسياسة.
رابط دائم: