رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حين غابت الثقافة..هبط علينا فكر الإرهاب

يبدو ان الغرب قرر ان يترك العرب غارقين فى مستنقع الإرهاب والدم ولم تعد لديه الرغبة فى ان يشارك فى مواجهة هذه الكارثة، وللأسف الشديد ان هذا الموقف يستند الى ان الإرهاب كان صناعة عربية وعليه ان يصفى نفسه بنفسه فى الأرض التى خرج منها..ان الغرب ينسحب الأن من كارثة الإرهاب تاركا العالم العربى يواجه محنة الانقسام بين المذاهب والعقائد والأفكار وقد تحولت الى حروب اهلية بين ابناء الشعب الواحد.

حين جاء الغرب ليشارك فى ضرب قوى الإرهاب دمر اوطانا بالكامل ولم تعد القضية التخلص من الإرهاب ولكنها تحولت الى وسيلة للتخلص من الأنظمة والجيوش والمؤسسات وكل ما يتعلق بشئون الدول ولهذا وجدنا امامنا اشلاء دول دمرت الحرب كل ما فيها..نحن الآن امام مواجهة عسكرية دامية مع الإرهاب وقد لا تكون الأخيرة فلا احد يعلم الى أين تتجه حشود الإرهابيين من العراق وسوريا واليمن وليبيا بعد كل الهزائم التى لحقت بها, وقد تكون هذه الظاهرة خلايا عنقودية، فقد كانت القاعدة هى الأب الشرعى لما خرج من تيارات متشددة حتى وصلت الى داعش وتوابعها..إذا كان الغرب قد تصور انه اصبح بعيدا بدرجة ما عن مخاطر الإرهاب فإن هذه الظاهرة تشبه مرض السرطان لا يعرف المريض فى أى الأماكن سوف تسكن المأساة..عندى ما يشبه اليقين ان ظاهرة الإرهاب ابعد ما تكون عن الأرض المصرية وأن ما حدث لنا لا يتناسب ابدا مع تاريخ ومكونات وثوابت هذا الشعب وان هذا المرض الخطير تسرب إلينا من أماكن اخرى وكانت هناك اسباب مهدت لظهور هذه المحنة فى بلادنا..

> ان مصر الثقافة التى عرفت الدين الصحيح والفكر الواعى والحوار المترفع كان من الصعب ان يغزو ارضها فكر الإرهاب حين كان لدينا لطفى السيد ومحمد عبده والعقاد وطه حسين وجامعة القاهرة والأزهر الشريف والسينما والمسرح القومى وحديقة الأزبكية والأوبرا ومعهد الموسيقى وصالونات القاهرة، وهذه النخبة الثقافية والسياسية والفكرية التى اضاءت العقل المصرى والعربى..كان من الصعب وسط هذا المناخ المبدع ان تجد حشود الإرهاب وهى تطارد وجه مصر الحضارى والفكرى..

> حين فرطت مصر فى دورها الثقافى وهو اعظم ادوارها كان من السهل ان تلتف حولها خفافيش الظلام تحمل فكرا مشوها وثقافة مريضة، وللأسف الشديد خرجت من بيننا تيارات شجعت التخلف وملأت العقول ظلاما وساعد على ذلك فساد فى التعليم وإهمال للثقافة وبدأت رحلة المواجهة مع الإرهاب بعد ان فقدت النخبة المصرية اهم مقوماتها وهى الوعى والحوار والثقافة الجادة..

> لاشك أن فساد المناخ السياسى وغياب الحريات واهمال الدولة لدورها الثقافى واختفاء لغة الحوار افقد الثقافة المصرية اهم ادوارها وهو التأثير فى كل ما حولها وتحولت مصر من دور الريادة إلى دور آخر بحيث تحولت الى ارض تستقبل أى شىء وكل شىء ولم تعد تميز بين الطيب والردئ.. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل انها اصبحت تشارك فى تقديم الثقافة السيئة والفكر الضال وكان من السهل ان يغزو هذا الفكر عقول اجيال جديدة فى ظل ظواهر غريبة فى الفكر والسلوك..واصبحت مصر مرتعا للفكر المتطرف الذى لم يكن يوما من مقومات هذا المجتمع..

> ان الدولة المصرية تغاضت تماما عن كل هذه الشواهد والظواهر المرضية واكتفت بأن تتعامل معها امنيا حتى انها تركت كل اسباب الظاهرة للمؤسسات الأمنية واختارت من الحلول اسوأ ما فيها من الحجر على الفكر ومطاردة المعارضين سياسيا وكلنا يعلم ما شهدته مصر فى معارك الدولة مع النخبة من المثقفين والمخالفين فى الرأى وكان التركيز دائما على الخلاف فى الفكر والمواقف السياسية..

> ان الدولة لعبت ادوارا سيئة مع كل تيارات الفكر فى مصر ما بين اليسار واليمين والاتجاهات الدينية والشيوعيين والمهرجين واستخدمت كل الأساليب فى الوقيعة بين هذه الأفكار ولجأت الى ذهب المعز حينا والى السجون فى احيان اخرى وكانت النتيجة ان هذه الأفكار والمعتقدات دخلت فى مواجهات مع بعضها سحبت الكثير من رصيد النخبة المصرية وقامت بتصفية بعضها البعض بحماية وتخطيط من الدولة.

كان من نتيجة ذلك كله ان دور مصر الثقافى تراجع وظهرت مواقع اخرى حاولت ان تسلب هذا الدور وهى غير مؤهلة له ولكنها فشلت، وحين انطلقت حشود التطرف والإرهاب كانت الساحة خالية لها خاصة ان مصدر الحماية الأكبر كان قد تراجع ولم يعد قادرا على الدفاع عن الآخرين او الدفاع عن نفسه..كانت مصر هى الحصن القادر على إيقاف فكر الإرهاب ولكنها كانت قد تخلت عن دورها ومقوماتها واهم ثوابتها وهى الثقافة.

> بعد ان تكشف الوجه الحقيقى لجماعة الإخوان المسلمين لا يستطيع احد ان يبرئ هذه الجماعة من تدمير وتشويه دور مصر الثقافى..لقد انفردت هذه الجماعة فى ظل دولة مغيبة بالعقل المصرى سنوات طويلة وافسدت فيه ما افسدت وغيرت الكثير من الثوابت الفكرية التى قام عليها بناء هذا العقل عبر ازمنة طويلة..لقد افسدت الكثير من ثوابت الدين والفكر والسياسة وجعلت الإنسان يتحول الى مجرد آلة تتلقى الأوامر والتوجيهات دون فكر او حوار وحين تولت السلطة ارادت ان تدير شئون وطن بحجم مصر بهذه الأساليب المتخلفة..ان مبدأ الطاعة العمياء الذى جسدته جماعة الإخوان فكرا وسلوكا هو الذى ترك لنا اعمال العنف والقتل والتفجيرات فقد تحول العقل الى لغم وتحول الفكر الى وصاية وتحول الدين الى وسيلة للسلطة حتى لو كان الدم هو الطريق اليها..

لا استطيع ان ابرئ الإخوان من مواقفهم ضد وطنهم وعرضهم أنفسهم فى مزادات مدفوعة الأجر من اطراف دولية هم انفسهم يعلمون مدى كراهيتها لمصر والمصريين، ان اعمال الإرتزاق لا تليق بنضال الشرفاء ولو كنت منهم لحملت حقيبتى وعدت الى تراب وطنى حتى لو رأيته قبرا.. ان خطيئة الإخوان التى لن تغتفر انهم باعوا امن وطنهم للمزايدين وقطاع الطرق وتحولت مصر على ايديهم الى نهر من الدماء البريئة الطاهرة..

> لا ادرى الى متى تصمت النخبة المصرية لقد تحركت فى 25 يناير وسجلت صفحة مضيئة حتى لو كره المغرضون ثم خرجت في 30 يونيو وانقذت مصر مع جيشها من سلطة جائرة وجماعة فقدت صوابها ثم اختفى بعد ذلك كل رموزها الصغار قبل الكبار..وانا لا اتصور ان السلطة هى التى تصنع الأدوار لأن النخبة هى التى تملك الحق فى أن تصنع دورها..لا توجد سلطة فى العالم قدمت الحريات لشعوبها على اوانى من ذهب حتى فى اكثر دول العالم حرية وتقدما.. أين الأحزاب التى شكلتها النخبة..اين الرموز الذين وقفوا وطالبوا بحقوقهم فى الرأى والحوار والمشورة..هل ينتظرون ان يأتى الوزراء وكبار المسئولين يطلبون منهم مناقشة الأفكار والمشروعات والخطط.. هل ينتظرون حتى يفتح لهم إعلام الدولة ابوابه وشاشاته وبرامجه لكى يعدلوا المسار او يشاركوا فى صناعته..ان النخبة المصرية الآن تجلس على الشاطئ تراقب الأشياء من بعيد وهى عاجزة عن ان تقتحم الأمواج وتنطلق بفكرها ودورها ومسئوليتها لبناء مصر الجديدة.

> لابد أن نعترف بأننا جميعا مقصرون..لم يكن الإرهاب صناعة مصرية ولكننا مهدنا له الطريق، ولم يكن الفكر المتطرف من دعائم ومقومات العقل المصرى نحن شعب عاش على النهر بالمحبة والعمل والتسامح طوال تاريخه..ولم يكن الدم مشهدا يوميا فى ربوع المحروسة لأنه فى النهاية دم برئ محرم فى كل الأديان والعقائد..ان العالم الأن يسحب يده من قضية الإرهاب وحشوده متصورا ان على العالم العربى الإسلامى ان يحاصر مأساته وهم لا يتحدثون ابدا عن ادوارهم المشبوهة فى غرس جذور الفتن بين الشعوب والتى وصلت الى الحروب الأهلية..

مازلت اعتقد ان قضية الإرهاب قضية فكر قبل ان تكون قضايا أمن، صحيح ان المواجهات الأمنية حسمت المعارك فى اكثر من مكان وان جيش مصر وجهاز الشرطة استطاع ان يحاصر هذه الظاهرة الوحشية وان ينتصر عليها رغم انها لم تنبت فى ارضنا ومازلت اعتقد ان الدم فى الشارع المصرى غريب علينا..

> لا أتصور ان الحلول الأمنية وحدها سوف تقتلع جذور هذه الكارثة أن المجتمع كله مطالب بمواجهات فكرية وثقافية ودينية يبدأ بالأسرة والمدرسة وينتهى بالمسجد والإعلام ولا يعقل ان يتصور البعض ان تكون المواجهة مع حشود الإرهاب أمنية فقط ان استعادة دور مصر الثقافى بفكرها الواعى وضميرها الحى لابد ان يواكب ما يقوم به الجيش والشرطة فى مقاومة هذه الكارثة، وعلى الدولة ان تسير فى اتجاهين: مقاومة بالأمن ومقاومة بالفكر، وقد أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى ذلك أكثر من مرة..ان الفكر يواجه بالفكر، وان اسوأ ما فى هذه الظاهرة الوحشية ان وراءها فكرا مريضا وعقولا شريرة..ان الوجبات الدينية السريعة والمعلبة لن تغير فكر الإرهابيين لأنهم لا يشاهدون هذه البرامج، كما ان إعلام الصراخ والضجيج لن يترك فيهم اثرا لأنهم لا يصدقون ما يسمعون ومن هنا لابد ان نبدأ من الصفر من البيت والأب والأم لأنها مزارع دائمة لتخريج الإرهابيين لابد ان يعود دور الأم فى المتابعة والأب فى الحساب وان تكون المدرسة دارا حقيقية للعلم والثقافة والمسرح والمكتبة وان يضع الإعلام اقدامه على الطريق الصحيح لأن إعلام السذاجة والسطحية وصل بنا الى ما نحن فيه وان تستعيد النخبة دورها ومسئوليتها..

ان جيش مصر يحارب الإرهاب والشرطة تطارده فى كل مكان وفى كل يوم يسقط الشهداء ولكن هناك عشرات المؤسسات الأخرى لا تقوم بدورها دينا وتعليما وثقافة وفكرا وسلوكا وحين ينتفض هذا المجتمع متحديا هذه المحنة ثقافيا وفكريا وسلوكيا فسوف نستعيد مصر التى عرفناها..

تسلل الإرهاب الى عقول المصريين حين غاب الفكر الواعى..وتسلل العنف حين غاب الحوار، وقبل هذا كله حين فقدت مصر دورها الثقافى خسر المصريون اعظم ما فيهم.

اعيدوا لمصر وجهها الثقافى المتحضر الرفيع ولن تجدوا فيها مكانا للخفافيش.



..ويبقى الشعر


حجرٌ عتيقٌ فوق صدر النيلِ يصرخُ في المدى..

الآن يلقيني السماسرةُ الكبارُ الى الرَّدى..

فأموتُ حزناً

لا وداعَ..ولا دُموعَ..ولا صَدى..

فلتسألوا التاريخَ عنِّي

كلُّ مجدٍ تحت أقدامي ابتدا..

أنا صانعُ المجدِ العريقِ ولم أزل

في كلِّ رُكنٍ في الوجودِ مُخلَّدا..

أنا صحوةُ الانسانِ في ركبِ الخُلودِ

فكيفَ ضاعَت كلُّ أمجادي سُدَى..

زالت شعوبٌ وانطوَتْ أخبارُها

وبقيتُ في الزَّمنِ المكابِرِ سيِّدا..

كم طافَ هذا الكونُ حولي

كنتُ قُدّاساً..وكنتُ المَعبدا..

حتى أطَلَّ ضياءُ خيرِ الخَلقِ

فانتفَضَت ربوعي خشيةً

وغدوتُ للحقِّ المثابرِ مسجدا..

يا أيُّها الزَّمنُ المشوَّهُ

لن تراني بعدَ هذا اليومِ وجهاً جامِدا..

قولوا لهُم

إنَّ الحجارةَ أعلنَت عِصيانَها

والصامِتُ المهمومُ

في القيدِ الثقيلِ تمرَّدا..

سأعودُ فوقَ مياهِ هذا النَّهرِ طيراً مُنشِدا..

سأعودُ يوماً حينَ يغتسلُ الصباحُ

البكرُ في عينِ النَّدى..

قولوا لهُم

بينَ الحجارةِ عاشقٌ

عرِفَ اليقينَ على ضفافِ النيلِ يوماً فاهتدى..

وأحبَّهُ حتى تَلاشَى فيهِ

لم يعرِف لهذا الحبِّ عُمراً أو مدى..

فأحبَّهُ في كلِّ شىءٍ

في ليالي الفرحِ في طعمِ الرَّدَى..

مَن كانَ مثلي لا يموتُ وإنْ تغيَّرَ حالُهُ

وبدا عليهِ..ما بدا..

بعضُ الحجارةِ كالشموس ِ

يَغيبُ حيناً ضوؤُها

حتى إذا سَقَطَت قِلاعُ الليلِ وانكسرَ الدُّجى

جاءَ الضياءُ مغرِّدا..

سيظلُّ شىء في ضميرِ الكونِ يُشعِرُني

بأنَّ الصُّبحَ آتٍ..إنَّ موعِدهُ غدا..

ليَعودَ فجرُ النيلِ من حيثُ ابتدا..

ليَعودَ فجرُ النيلِ من حيثُ ابتدا ..

 

> من قصيدة «حتى الحجارة اعلنت عصيانها سنة 1998»

[email protected]

[email protected]
لمزيد من مقالات يكتبها: فاروق جويدة

رابط دائم: