رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عدو الجماهير!

فى مطلع الثمانينيات كنت قد تمكنت مع زوجتى من تدبير مبلغ لشراء شقة فى مدينة نصر، بعد أن عملنا فى دولة خليجية لأربع سنوات.. هى طبيبة وأنا صحفي، وأذكر الوفد رفيع المستوى الذى جاء معى لمقابلة صاحبة العمارات ومساعدها صبى الميكانيكي، الذى صار اسمه الباشمهندس، والذى أصبح بدوره مالكًا عدة عمارات، وكانت السيدة التى اشتهرت باسم الحاجة، وسيدة أخرى، هما أباطرة شقق التمليك فى مدينة نصر، ومصر الجديدة، قبل أن يظهر حوت مدينة نصر الشهير، وكان الجميع محترفين لمخالفة قوانين البناء.. سواء من حيث الارتفاعات أو نسبة مسطح البناء إلى مساحة القطعة، وكان أن أنجانى المولى وأسرتى من الموت خنقًا أو تكسيرًا تحت حطام عمارة هليوبوليس، التى انهارت فى أثناء زلزال 1992، وكانت الحاجة قد عرضت فى البداية للوفد الرفيع، الذى جاء يتوسط لى أن آخذ شقة فى عمارة «هللوبولوس»، هكذا كانت تنطق هليوبوليس، وكان السعر المعروض منها هو 85 ألف جنيه، فيما عمارة العقاد بـ 40 ألف جنيه!!.. هذا هو طرف خيط بسيط ورفيع لبداية استفحال الاستقواء على الدولة وقوانينها ومؤسساتها وسلطاتها، عندما حدث الالتقاء المحرم والمجرم بين نوع معين من الرأسمال العشوائى وبين الفاسدين فى بعض الجهات الرسمية.

منذ تلك الأيام الكالحة، مضى الذين يعمدون إلى الفتك بكل ما هو قانونى وشرعى فى طريقهم، حتى صارت جرائم المخالفات فى البناء أمرًا طبيعيًا مشروعًا، والاستثناء الذى يثير السخرية هو الالتزام بما يحدده القانون من ضوابط وشروط.. ومازلت أذكر يوم تطربقت عمارة ضخمة فى عباس العقاد على رأس سكانها، وكانت تحتها سوق تجارية مزدحمة، عندما قال محافظ القاهرة على أيام الراحل الدكتور عبدالرحيم شحاتة إن كل مبانى مدينة نصر قابلة للانهيار!!، إذ الأسمنت والحديد والمواصفات الضرورية للبناء كلها مغشوشة ومخالفة!.. ومن هناك مكانًا وزمانًا.. أى فى الأحياء الراقية وفى حقبة الانفتاح وأوجها فى الثمانينيات إلى هنا، أى الآن، حيث الاعتداء المرعب على أراضى الدولة وأملاكها، وعلى النهر وطرحه وحرمه، وعلى البحر وشواطئه نعيش جميعًا مأساة الانحطاط الحضارى والثقافى والسلوكي، التى لا يرتكبها الفقراء والجهلة فقط، وإنما عينات أخرى من الأثرياء الأغنياء المتعلمين المنتسبين إلى مستويات اجتماعية وربما وظيفية مرموقة!

ولأن الشيء بالشيء يذكر فإننى قد أرتد بالذاكرة إلى ما قد يكون متأصلًا لأسباب عديدة فى الجانب السلبى للشخصية المصرية.. فالذين من أصول فلاحية قروية مثلى - يعرفون كيف يقدم كثيرون على أكل الطريق وتجريف جسور النيل والرياحات، والترع والقنوات، بل ولا يتورعون عن تجريف حواف منطقة المقابر، ولا عن سرقة مياه الرى من الجار الذى يدير الماكينة أو الساقية وهلم جرا، مما سأفصل فيه فى السطور المتبقية.. ذلك أن الطريق قد يكون بعرض عشرين مترًا، ثم ومع كل نهاية محصول وبداية محصول جديد يبدأ أصحاب الحقول المطلة على الطريق فى حرثها أو عزقها وتقصيبها، تمهيدًا لتخطيطها وريها وزراعتها، وإذا بالفؤوس أو المحاريث تبدأ بالتهام عدة سنتيمترات من حافة الطريق، وسنة بعد أخرى تصير السنتيمترات أرباع أمتار، ثم أنصافًا، ويتحول الطريق من مساحة تتسع لجرارين متقابلين بالمرور إلى شريط ثعبانى تمر فيه جاموسة أو حمار بالكاد!!.. والكل يبدأ مهمته بعد أن يصلى الفجر وقبل الشمس، أى قبل أن تصحو السلطة، ممثلة فى الجمعية الزراعية والعمودية والخفر، وقبل أن تكثر الأرجل المارة فى الطريق، ومنها أرجل أصحاب حقول بعيدة نسبيًا، ولكن هذا الطريق هو السبيل الوحيد إليها!.. وكثيرًا ما تحدث المشكلات والاشتباكات، ثم يتم وضع العلامات الحديدية التى تحدد نهر الطريق، ولكن ما أسهل عند كثيرين من متعة نقل «الرجمة»، التى كانت هى الحجر الصلد الذى يفصل بين الحقول، ويحدد بداية ونهاية ملكية كل جار.. ثم ما أسهل متعة سرقة مياه الري، إما من الدولة بفتح الأهوسة ليلًا ورشوة من يحرسونها، أو من الجيران، ويقوم السارق بثقب السد الطينى الذى يسد القناة المؤدية لحقله فى أثناء رى جاره، ويبدو السد الطينى قائمًا ولكن المياه تمر منه بسهولة خفية لا تلحظها العين مباشرة، اللهم إلا إذا نزل المتضرر إلى المجرى المائى ليكتشف الثقب.. ثم إنه إذا اشتد الشتاء وعز وجود الردم الجاف لوضعه تحت أقدام الماشية فى الزرائب اتجه المفترى إلى المقابر التى عادة ما تقام منذ الزمن القديم على ربوة مرتفعة حتى لا تصلها مياه الفيضان، ويبدأ بفأسه، بتجريف حواف الربوة، حتى وإن تعثرت فأسه فى عظام أسلافه!.. وكثيرًا غير ذلك من حالات الاعتداء على ملكية الغير، سواء كان الغير هو الدولة أو هو الناس!

عندئذ نحن أمام معادلة، طالما كتب فيها البعض، وهى أن القائد الجاد المحب لوطنه والحريص على الشعب، أحيانًا ما يكون فى الجانب المعادى لما يريده الناس!! لأن الناس خلال فترات التردى والانحطاط السياسى والثقافى تتعود وتدمن، بل وتجيد ممارسة كل ما يعوق العمل المؤسسى وضوابط القانون، ومقومات التنمية الشاملة، ويكون الحل الفردى هو الطريق للخلاص الفردي، حتى وإن كان على حساب الآخرين وضد القانون والعرف، ويتم تحريف فهم العقيدة الدينية، ليكون هذا الفهم المنحرف الضال هو الغطاء الأخلاقى للجريمة! فإذا حدث التحول وجاء من يتصدى لقيادة المجتمع نحو خلاصه الجمعى بشكل مؤسسى وعلمى صار حتمًا أن يكون عدوًا لما اعتاده الناس، ويبدأ المتصيدون بدغدغة أحط ما فى النفس البشرية من عواطف، وهى عاطفة الخلاص الفردى على أنقاض الدولة والمجتمع الآخر بوجه عام.. أظن أن الرسالة وصلت.

لمزيد من مقالات أحمد الجمال

رابط دائم: