كشفت جريدة «نوڤل أوبسرڤاتور» الفرنسية النقاب فى عددها الأخير عن تلقى الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون بيانا من المثقفين العرب يطالبه بسحب ترشيح سلفه فرانسوا أولاند وزيرة ثقافته لمنصب مدير عام اليونسكو، وهو المنصب الذى اتفق على أن يكون هذه المرة من نصيب العرب، ووصفت الجريدة واسعة النفوذ ذلك الترشيح بأنه استفزاز للعرب الذين ترتبط معهم فرنسا بعلاقات صداقة متينة تمتد عبر السنين. وأوردت الجريدة لأول مرة نص البيان الذى وقعه عدد من كبار المثقفين من جميع الدول العربية بلا استثناء، والذى أعلنوا فيه احتجاجهم على تلك الخطوة المفاجئة التى اتخذها الرئيس الفرنسى السابق قبيل مغادرته قصر الإليزيه، بغرض مكافئة وزيرة ثقافته السابقة أودرى أزولاي.
وقالت الجريدة إن ترشيح أزولاى لليونسكو جرى دون مراعاة لعلاقات الصداقة الوطيدة التى طالما جمعت فرنسا بالعالم العربي، ودون احترام للمبدأ المتوافق عليه دوليا بعدم جواز استحواذ دولة واحدة على رئاسة أكثر من منظمة دولية كبرى فى الوقت نفسه، ومن المعروف أن فرنسا تحظى حاليا برئاسة صندوق النقد الدولى فى شخص رئيسته الفرنسية كريستين لاجارد.
وقد جاء ببيان المثقفين العرب إن فى قرار الرئيس الفرنسى السابق والذى تخطى فيه جهات الاختصاص فى فرنسا، من وزارة الخارجية الى مجلس النواب (وفق ما كشفت عنه تقارير الصحافة الفرنسية آنذاك)، ما يشير الى محاولة غير مقبولة لاستغلال الإجراءات الديمقراطية من أجل الاستحواذ على مواقع قيادية اتفق على تداولها، معتمدا فى ذلك على ما لدولة المقر من ثقل يفوق بقية الأعضاء، وهو عادة ما يجعل دول المقر تمتنع عن خوض مثل هذه المنافسات غير المتكافئة والتى تخل بمبدأ التداول الديمقراطي، كما ذكر البيان أن جميع المناطق الجغرافية قد حظيت من قبل برئاسة اليونسكو فيما عدا المنطقة العربية، أما أوروبا فقد حظيت به ست مرات حتى الآن.
وكنت قد قمت شخصيا بتسليم البيان للسفير الفرنسى فى القاهرة مفوضا من الموقعين عليه من الكتاب والمفكرين والفنانين والوزراء السابقين والذين قالت الجريدة إنهم من أكبر الأسماء فى الوطن العربي، وذلك قبيل الزيارة الأخيرة التى قام بها وزير الخارجية الفرنسى چان إيف لو دريان إلى القاهرة، وأكدت الصحيفة أن الوزير تسلم البيان ورفعه بدوره الى رئيس الجمهورية بمجرد عودته الى باريس.
ووصفت الجريدة الفرنسية ترشيح أزولاى بأنه parachutage أى هبوط مفاجيء بالبراشوت، ذلك أن أولاند فاجأ الجميع بهذا الترشيح فى اللحظات السابقة لإغلاق باب التقدم لمنصب مدير عام اليونسكو، وفى مقال بجريدة «الفيجارو» وقتها أكد محررها الشهير جورج مالبرونو، أن أولاند لم يقم باستشارة - أو حتى إخطار - وزارة الخارجية صاحبة الاختصاص والمنوط بها تقديم الترشيح لليونسكو، وأكدت الجريدة أنه كان هناك توافق داخل اليونسكو على أن يؤول موقع المدير العام فى هذه الدورة الى الدول العربية، وهو ما أعادت تأكيده هذا الأسبوع «النوڤل أوبسرڤاتور» مضيفة أن الترشيح الفرنسى لم يكتف باعتراض طريق ذلك الاتفاق وانما اختار له مرشحة يهودية الديانة فى مواجهة المرشحين العرب الأربعة الذين تقدموا للمنصب عند بداية فتح باب الترشيح، ذلك أن المرشحة الفرنسية هى ابنة أندريه أزولاى المستشار العجوز لملك المغرب الراحل والذى ينتمى الى عائلة يهودية كبيرة تتصل اتصالا وثيقا بدوائر الضغط اليهودية فى فرنسا وفى مقدمتها «المجلس الممثل للمنظمات اليهودية فى فرنسا» CRIF ذو التأثير الواسع والذى يساند المرشحة الفرنسية .
وقد أوردت «النوڤل أوبسرڤاتور» فى مقالها قولى لمندوبتها التى شرفت باستقبالها فى الفندق الذى أقمت به أثناء زيارتى لباريس فى الأسبوع الماضي، أن اليونسكو هى الساحة الأولى فى حرب المواجهة التى يخوضها العالم الآن ضد التطرّف والتعصب والإرهاب، مؤكدا أن تلك الانحرافات تبدأ فى العقل، لذا فإن مواجهتها تكون بالثقافة والتعليم قبل أن تكون بالأمن، وأن وجود من ينتمى للعالم العربى الإسلامى على قمة اليونسكو فى هذه الظروف يكون أكثر فاعلية فى تلك المعركة مما لو كان مدير اليونسكو قادما من الغرب.
كما جاء بالبيان الذى نشرت الصحيفة نصه الكامل، إن الخطوة الرئاسية المباغتة التى قام بها أولاند انما تكشف عما يبدو وكأنه إصرار على الحيلولة دون وصول العرب الى ادارة اليونسكو تحت أى ظرف من الظروف، ذلك أن تلك ليست المرة الأولى التى تترشح فيها شخصية ثقافية كبيرة من العالم العربى لمنصب المدير العام لليونسكو، وهذه الخطوة من شأنها أن توجد مواجهة لا لزوم لها بين الشرق والغرب، وتزيد من حدة الاستقطاب الذى يعانيها العالم فى جميع المستويات السياسية والثقافية والدينية.
لقد أسهمت الحضارة العربية فى بناء الحضارة الانسانية بما لا يمكن تجاهله، ولولا ما قدمته فى هذا المجال من إنجازات فكرية وثقافية وعلمية، ما انقشعت ظلمات العصور الوسطى ولا بزغ فجر عصر النهضة فى أوروبا، لكن الدول العربية صانعة هذه الحضارة تتصدى الْيَوْمَ للخطر الداهم الذى يواجه الانسانية فى كل مكان، والمتمثل فى التطرّف الدينى والإرهاب، وان وصول أحد مرشحيها لقيادة أكبر المنظمات الثقافية الدولية سيعطى بلا شك زخما جديدا لهذه المعركة، ويخرجنا من دائرة المواجهة الزائفة بين الشرق والغرب.
ومن المعروف أن ترشيح الرئيس الفرنسى السابق لأزولاى قوبل بمعارض من بعض الدوائر داخل فرنسا ذاتها حيث أصدرت عضوة مجلس الشيوخ جويل جاريو مايلام ممثلة المجلس فى اللجنة الوطنية الفرنسية لليونسكو، بيانا هاجمت فيه ذلك الترشيح ووصفته بأنه «إهانة» للعرب، وقالت إنه يمثل خطأ دبلوماسيا وسياسيا، وهو ما أكدته لى جاريو مايلام بنفسها عند لقائى بها فى مكتبها بمجلس الشيوخ الفرنسى والذى نشرت نصه فى مقالى فى الأسبوع الماضي، وكانت بعض الصحف الفرنسية قد نشرت وقت إعلان ترشيح أزولاى أن وزير الخارجية الفرنسى نفسه فوجيء بهذا الترشيح الذى تم قبل إغلاق باب الترشيح بساعات ودون أن يتم التشاور معه بشأنه، فقد وصله الترشيح من قصر الإليزيه الرئاسى فقط ليوقعه ويسارع بإرساله الى اليونسكو قبل إغلاق باب الترشيح. ...وبعد، فلا يسعنى إلا أن أتساءل بعد كل هذا: أين صحافتنا الموقرة وإعلامنا المبجل من هذه القضية التى يبدو الإعلام الفرنسى أكثر اهتماما بها منا؟!.
[email protected]لمزيد من مقالات محمد سلماوى رابط دائم: