تعرض مسلسل الجماعة في جزئه الثاني للكاتب الكبير وحيد حامد لكثير من التحليل والنقد وأحيانا التجريح. وإذا كان من المفهوم تعرض العمل للتحليل والنقد باعتباره في المقام الأول عملا فنيا، فإن من غير المفهوم تعرض العمل وكاتبه للتجريح من قبل من نصبوا أنفسهم مدافعين عن الرئيس عبد الناصر ومن قبل أنصار جماعة الإخوان أنفسهم.
أما المحاولة اللافتة للنظر فهي انتقاد بعض أعضاء الجماعة السابقين أو المتعاطفين معها لعدم تناول المسلسل ما سموه “الوجه المعتدل” للجماعة في مقابل تركيز العمل على الوجه المتطرف أو العنيف المتمثل في سيد قطب وتياره.
التوقف عن تلك المحاولة يبدو أهم بكثير من الاهتمام أو التوقف عن نقد مسلسل الجماعة أو الهجوم عليه وتجريح كاتبه فقط لأن تلك المحاولة تتخذ من مناسبة عرض المسلسل تكئة لنحت ملجأ أخير للجماعة يتمثل في محاولة التأكيد على الزعم أو الوهم الإخواني الكبير بأن ثمة تيارين في الجماعة أحداهما عنيف متطرف والأخر معتدل مسالم.
وبعد أن خسرت الجماعة معركتها في فصل نفسها عن جماعات الإسلام السياسي الأخرى التي تتبنى منهج العنف نتيجة تطورات شهدتها مصر عبر السنوات الأربع الماضية، فإن البعض يحاول الأن تسويق فكرة أن الجماعة كما كان بها متطرفون كان بها أيضا معتدلون! والمدهش أن المسلسل عالج بشكل أو بآخر حالة هؤلاء الذين لم ينسوا يوما أنهم إخوان، وذلك من خلال المشهد الرائع في المسلسل الذي جمع بين الرئيس عبد الناصر وزكريا محيي الدين والشيخ أحمد حسن الباقوري الذي كان يحاول التوسط لتخفيف أحكام الإعدام التي صدرت بحق الإخوان، فإذا بزكريا محي الدين يقول للشيخ الباقوري “مش قادر تنسى إنك إخوان يا شيخ أحمد”. وها هو المشهد يتجسد على أرض الواقع، إذ يبدو أن بعضا ممن أعلنوا الشقاق مع الجماعة أو التوبة عن أفكارها ما زالوا لم ينسوا أنهم كانوا إخوانا.
إن مهاجمة وحيد حامد لأنه لم يظهر الوجه الذي يراه البعض أبيضا للإخوان. وهو الوجه الذي يزعم هؤلاء أن وجود شخصيات إخوانية مثل الباقوري نفسه وعبد العزيز كامل والبهي الخولي يعبرون عنه، وكانوا ضد منهج سيد قطب الثأري التكفيري الذي يطرح نفسه بديلا للدولة وأنهم يمثلون “مدرسة” تحاول خدمة الإسلام والوطن عبر فلسفة التحالف والتكامل بين الدعوة والدولة. أي أنهم (المعتدلون) لم يروا تعارضا بالضرورة بين مشروع الرئيس عبد الناصر ومشروعهم يتطلب الصدام معه. البحث عن الوجه “الأبيض” للإخوان دفع هؤلاء لتغييب أو تناسي حقيقة أنه حتى مع التسليم بأن ثمة أشخاصا معتدلين في الجماعة فإنهم يظلون في النهاية مجرد أشخاص يعبرون عن مواقف ورؤى شخصية لم يكن أو لم يظهر أي تأثير يذكر في مسيرة الجماعة ولم تخلق تيارا يعتد به داخل تلك الجماعة بل إنهم تركوا الجماعة، بينما التيار الذي عبر عنه وقاده سيد قطب قد تسيد مسيرة الجماعة وبدا واضحا أنه أصبح المسيطر على الجماعة حاليا رغم مرور عدة عقود من الزمن على وفاته، والأكثر من ذلك أن سيد قطب بات ملهما لكثير من الجماعات المتطرفة.
أما الحديث المزعوم عن وجود “معتدلين” في الجماعة لأنهم لم يلتزموا معارضة الرئيس عبد الناصر والدولة فإنه في الحقيقة يتعارض مع حقيقة أن المتشددين والمعتدلين كانوا متفقين تماما على ضرورة تحقيق مشروع أسلمة مصر وأن الخلاف بينهم يظل في الطريقة التي يمكن بها تحقيق ذلك. فبينما تبني القطبيون تحقيق المشروع بالعنف وإجهاض مشروع ثورة يوليو رأي المعتدلون (الأقلية بطبيعة الحال وغير الفاعلة) إمكانية التمكين للمشروع من خلال مهادنة الثورة. ولو دانت لهم الثورة ومصر لما فعلوا أفضل مما فعلت الجماعة في عام 2012 عندما استولوا على مصر ثم عندما أجبرهم الشعب المصري على الرحيل، حيث تحولت الجماعة عن بكرة أبيها إلى العنف ولفظت كل من كان له رأي آخر يخالف التيار السائد المستند في المنهج القطبي. أي أن الجماعة بنفسها لفظت عبر مسيرتها كل وجه كان يمكن الزعم بأنه معتدل أو صاحب رأي مخالف للتيار السائد.
وإذا كان من يهاجمون مسلسل الجماعة دفاعا عن الجماعة يعترفون بأن الجماعة لن تراجع نفسها ولن تعترف بالأخطاء التي أوضح حقيقتها المسلسل ولن تعتذر عنها، فإن ما سيبقى للمسلسل أنه عرض للحقائق التي لا خلاف حولها والتي تمثل النهج العام للجماعة، وما كان ممكنا للمسلسل - حتى لو أراد- في ظل الحقائق التي تكشفت خلال السنوات الماضية أن ينتصر لقصص وهمية أو على الأقل هامشية على متن مسيرة الجماعة. فالجماعة لم تنجح في شئ قدر نجاحها في إزالة ورقة التوت التي ظلت تستتر بها طيلة عمرها والتي تمثلت في النفي القولي للعلاقة الوثيقة بينها وبين منهج العنف، ولم تصمد أفكار ومقولات “دعاة لا قضاة” ولا “ليسوا إخوان وليسوا مسلمين” في وجه تيار العنف المتأصل والمتجذر في الجماعة. ولم تترك الجماعة أي “قشة” يتعلق بها من يحاول الدفاع عنها ولو حتى على استحياء، فباتت مهمة غسل سمعة الجماعة أو تبييض وجهها مهمة مستحيلة. ويبقى أن غسل سمعة الإخوان بعيدا عن محاكمة من تورطوا في دماء المصريين ليس مهمة مسلسل الجماعة ولا مهمة المتيمين بالجماعة وإنما هي مهمة تقع في المقام الأول والأخير على الجماعة نفسها، إن أرادت!
لمزيد من مقالات د. صبحى عسيلة رابط دائم: