يزداد الترويج لجرثومة التكفير الخطيرة التي لا تزال تنخر في جسد الأمة، وتشحن أجواءها بالكراهية والبغضاء والإقصاء والتفتيش في مكنونات النفس البشرية والشق عن قلوب الخلق والتنقيب في سرائرهم وبواطنهم، على خلاف ما تنادي به الأديان وتحث عليه القوانين في ترك ذلك مطلقًا لعالم السرِّ وأخفى سبحانه وتعالى.
نعم لقد باتت مجتمعاتنا تموج مجددا ومنذ عقود بأفكار التكفير وإطلاق الكفر على عموم الناس فضلا عن المسلمين المتعبدين بشعائر الإسلام من قِبل أهل التطرف وجماعات التشدد الذين لا يدخرون جهدًا في ترسيخ هذه الأفكار الهدامة في عقول أفراد الأمة، تحت أسماء خداعة وشبهات مكشوفة مع اعتماد منهج اللوازم والتبعات الفاسدة، والتي منها من لم يكفر الكافر فهو كافر، ومن لم يكفر من لم يكفر الكافر فهو كافر.. وهكذا حتى يصل الأمر إلى صاحب التكفير نفسه.
وهذا مسلك ظاهر غلوه وتطرفه، بمسارعة هؤلاء إلى التكفير لأدنى شبهة حتى زادوا في أمور الاعتقاد أمرًا من عندياتهم، ثم يكفّرون الناس بعدم وجوده فيهم، ويضيفون إلى ذلك مبدأ «المفاصلة الشعورية» الذي يعلمونه أتباعهم تحته سمات التقية ومظاهرالخداع ومرتكزات النفاق لمجاراة الأمة والشعوب في عباداتهم ومعاملاتهم مع مبادلتهم اعتقادًا بالكفر وأحكامه، بل لا يخلو الأمر من تحريض الأتباع أنه لا سبيل إلى الخلاص من هذه الفئات الضالة ـ في زعمهم - إلا بالقتل والعنف تحت مسمى الجهاد، وفق منهج سياسي وعسكري، أو سياسي قابل للتطوير العسكري.
والمقرر شرعًا أنه من ثبت له عقد الإسلام بيقين فإنه لا يزول عنه إلا بيقين ولا يزول عنه بالشك، والتكفير مفهوم مضبوط شرعًا، وضابط ما يكفر به شرعًا ثلاثة أمور: أحدها: ما يكون نفس اعتقاده كفرا كإنكار الخالق وصفاته، وجحد النبوة. والثاني: صدور ما لا يقع إلا من كافر راضيًا مختارا قاصدا فعله على وجه الكفر، والثالث: إنكار ما علم من الدين ضرورة، لأنه مائل إلى تكذيب الشارع.
ولا ريب أن البنود السابقة مجملة وتحتها تفاصيل كثيرة، وبالتأمل في دلالاتها نجد أنها تؤكد على العلماء فضلا عن العامة وجوب الابتعاد والاحتياط من الدخول في هذا المجال الشائك جدًّا، تأسيسًا على تضافر أدلة الشرع الشريف على وجوب الاحتراز من هذا الباب وتبعاته، في قول الله تعالى: «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا» [النساء: 94]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ)(متفقٌ عليه)، ومن ثَمَّ كان من أصول عقيدة المسلمين أنهم لا يكفرون أحدا من المسلمين بذنب، ولو كان من كبائر الذنوب- فيما دون الشرك- قال تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48].
ولخطورة القول بالكفر قرر علماء الأمة عبر العصور أن تنزيل الأحكام الخاصة بذلك تخص القضاء وحده، فلا يجوز لأي فرد أو مؤسسة التجرؤ والافتيات عليه بتكفير معين ولا إطلاق التكفير على أحد مهما كان.
لكن ومع وضوح هذه الأمور نجد أن السمة الأكثر شيوعا بين أهل التطرف وجماعات الإرهاب هي استخدام مفهوم التكفير والتوسع فيه، والخروج على عموم المسلمين بالبغي والعدوان والقتل والدماء، مقلدين في ذلك أسلافهم من الخوارج، فقد كان رمي المخالف بالتكفير هو اللفظ الأسهل على ألسنة أهل الفرق والمذاهب، رغم تحذير الصحابة ومن تبعهم بإحسان رضي الله عنهم من المجازفة بالتكفير والتسرع فيه، فإن مِن شيم العلماء الأناة في كل شيء، فمن تجده متسرعًا ومجازفًا في الأحكام فاعلم أنه لم يشم للعلم رائحة، لا سيما وأن الحكم بالكفر متوقف على توافر شروط وانتفاء موانع.
لمزيد من مقالات د. شوقى علام رابط دائم: