ولابد أن «أمى» التى ظلت تلدنى ليومين وثلاث ليال.. مطبقة الساقية.. عاقدة العزم على ألا تفتح لى منفذا للعبور... كانت تدرك بشكل أو بآخر..
أنها لا تريد لى «ذلك العالم من المراوح» .. لكن «القابلة» صرخت عليها... وفتحت ساقيها..
وأخرجتنى .. وقطعت «الحبل السرى» بينى وبين أمى.. ومسحتنى فى خرقة... ووضعتنى إلى جوار أمى.
ولابد أن «أمى» رمقتنى فى أسف.. كأنما تعتذر لى أن أسلمتنى إلى تلك «المراوح».
وفوق رأسينا «تور» تلك «المراوح» الكبيرة الصدئة مسنونة الأذرع.. المعلقة فى سقف «البدروم» الواطئ.. شاحب الضوء.. مثل «خفافيش أسطورية» تصرخ فى أصوات معدنية.. كأنها تتوعدنى فى قادم الأيام.
و«أمى» التى ظلت تلدنى ليومين وثلاث ليال.. تسعل.. وينتفض جسدها الضئيل.. وهى ترمق بعين مجهدة تلك «الخفافيش الأسطورية».. التى تصرخ فى أصوات معدنية.. فوق رأسينا.. تكاد ترجوها أن ترفق بى.
و«الخفافيش» يتعالى صراخها المعدنى كأنما تؤكد لـ«أمى» ذلك الوعيد.
وأنا ـ قطعة اللحم الحمراء المدممة ـ الغارقة فى المخاط ــ أصرخ..
و«أمى» تلقمنى ثديها لعلى أسكن..
وظلال أذرع تلك «المراوح» ـ الخفافيش ــ تتناوبنى فأرضع مع لبن أمى ظلال أذرع تلك المراوح.
ولما حبوت.. حبوت تحت ظلال أذرع تلك المراوح.
ولما تساندت على حوائط «البدروم» الرطبة..
تساندت تحت ظلال أذرع تلك المراوح .«أمى» من أذرع تلك المراوح المسنونة ــ الخفافيش ــ التى تلتقم أصابع اليدين.. فهى لاتطال الرءوس..
وإنما تطال الأصابع التى ترتفع فوق الرءوس.
ورفعت يدها اليسرى فى وجهى ليبين «إصبعها الخنصر» المبتور.
وخفت.
كنت أرقب أذرع تلك المراوح المسنونة ــ الخفافيش ــ وهى تدور فوق رأسى وتصرخ فى أصوات معدنية..
تطلب منى «الغفلة».
وجاءتنى «الغفلة» حين رفعت يدى اليسرى فوق رأسى ــ فى الصباح ــ وأنا أرتدى قميصى المدرسى..
فالتقم «الخفاش» «إصبعى الخنصر»
وصرخت.
وقفزت عاليا..
أتخبط فى حوائط «البدروم» الواطئ.. شاحب الضوء.. مثل سرداب.. أجأر.
والألم يتمشى حارقا من إصبعى المبتور فى جسدى..
صاعدا إلى رأسى..
والدماء تتساقط من «إصبعى الخنصر» المبتور.
و«الخفافيش» فوق رأسى تصرخ فى أصوات معدنية كأنما فى ابتهاج..
تلك «الخفافيش» أعدائى.
وانتزعت «الحديدة» الطويلة الثقيلة التى تغلق بها أمى«بوابة البدروم».
لتكن تلك نهاية «الخفافيش».
وقبل أن أهوى بقطعة الحديد الطويلة الثقيلة فوق أذرع تلك المراوح المسنونة.. لحقت بى أمى..
وأمسكت يدى.
ــ تلك المراوح هى التى تجلب لنا الهواء فى ذلك «البدروم» الراكد.. ولولاها لما استطعنا الحياة.
وسحبت من يدى قطعة الحديد.
ــ أعلم أننا نعيش مع الخطر تحت سقف واحد...
وعلينا أن نتعايش معه حتى يحين أوان الخروج.
وأمسكتنى.
لا خروج لنا إلا بك.. حين تحصل على شهادتك العليا وتعمل.
عندها نخرج من ذلك « السرداب» الأبدى إلى نهر الحياة.
نمتلك مسكنا فوق سطح الأرض.. له نوافذ يدخل منها الهواء.. بلا مراوح ــ خفافيش ــ فى سقفه..
نستطيع فيه أن نرفع رءوسنا وأيادينا.. ونشير بأصابعنا للحياة.
وزفرت.
ــ إنى«أمك» التى عملت «خادمة» فى قصور الأسياد فى الضفة الأخرى من المدينة.. من أجل أن ترعاك.. بعد أن التقمت تلك «الخفافيش» أصابع يدى أبيك كلها.. إلا إصبعا فى كل يد.. فهرب من ذلك «البدروم» ــ السرداب ــ إلى الضفة الأخرى من المدينة..
يستجدى الأسياد.. ويشحذ فوق يومه.
ومسحت علي أصابعى.
ــ عليك أن تحتفظ ــ بأصابعك الباقية.. وألا تستجيب لغوايات تلك «الخفافيش» التى تدعوك «الغفلة»
لما خرجت من بوابة المستشفى بعد أن طببت إصبعى المبتور.. وجدت من خلفى طابورا طويلا من الشباب مربوطى الأيدى بالشاش.. وقد طببوا أصابعهم المبتورة.
فمضت فى الشارع..
ومضوا من خلفى.
ورأينا ـ فوق رءوسنا ــ فى الفضاء ــ تلك المراوح ـ الخفافيش الأسطورية ــ «تور» .. وهى تصرخ فى أصوات معدنية تعلننا: أنها لنا بالمرصاد.
فأسرعنا نخفى أصابع أيادينا المتبقية تحت آباطنا.
ونصعد الطريق.
ميرفت عبدالعاطى
الغارقة فى المخاط
تصرخ..
و«أمى» تلقمنى ثديها لعلى أسكن.
رابط دائم: