رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
فأما المشهد الأول، فيتعلق بإحدى الزوجات، شاء حظها العاثر أن تقع عيناها على حذاء زوجها المهترئ البالى، الذى أمضى فى قدميه ما يزيد على 4 سنوات، نظرت، فانعقد لسانها من الدهشة، إذ لا رباطًا ماسكًا نفسه رأت بل قطعة من الخيط متآكلة الحافتين، ولا كعبًا مستقيمًا متساويًا وجدت، ولا فرشة فى بطانة الحذاء شاهدت. ببساطة كان حذاءً أكل عليه الدهر وشرب ثم بصق. خبطت صدرها فى جزع مؤلم، وامتلأت عيناها بالدمع.. ثم اتخذت قرارها المزلزل: «سوف أشترى للراجل الغلبان جزمة»! دارت ولفت بالأسواق، حتى حفيت منها القدمان، وأخيرًا اشترت الحذاء، وعادت مهرولة للزوج القابع يشاهد المسلسل: خذ يا سيدى.. اشتريت لك جزمة.. موش خسارة فيك. بحلق الرجل وحملق، ثم تشهد وبسمل وحوقل، وهمس فى امتنان: بكم هذا الحذاء يا حبة القلب؟ قالت وقد ابيضت عيناها من الفخر: أبدًا.. 450 جنيها فقط.. يا بلاش. بكم؟.. قلتِ بكم؟ ولسنا هنا فى وارد سرد ما جرى بعد ذلك، فبقية القصة كتبت فى الجرانين، لكن الروايات التى تواترت أكدت أن الزوجة أقسمت على كل الكتب المقدسة، بأن هذا أرخص حذاء فى السوق يمكن ارتداؤه ويعيش.. إذ هناك من الأحذية، ما يبلغ ثمنه الآن ألفين وثلاثة، بل وخمسة! فأما المشهد الثانى، فهو لشجار هز أركان إحدى الهيئات الحكومية المرموقة عندنا، وكان شجارًا عجيبًا، إذ ذهب الموظفون إلى الخزانة، ليقبضوا الراتب الجديد، مضافًا إليه العلاوة الميمونة التى قررتها الحكومة مؤخرًا، وأقرها المجلس الموقر (صدق أو لا تصدق 10 % حتة واحدة)، فدب الشجار. لماذا؟ لقد اكتشف الموظفون أن ما قبضوه جاء أقل من راتب الشهر الماضى.. فأين العلاوة إذن يا خلق الله؟ وكانت الإجابة: أبدًا لقد دخلتم حضراتكم شريحة ضرائبية مرتفعة فزادت الخصومات.. عادى يعنى! الحذاء بخمسمائة، والعلاوة ضاعت.. وسلم لى سلامًا مربعًا على قيمة الجنيه، وبالمرة لا تنسى أن تسلم لى على الطبقة المتوسطة. على فكرة، موضوع الطبقة المتوسطة هذا صار مصطلحًا من الماضى، وتحفة من تحف كتب التاريخ، إذ كيف تتحدث عن طبقة كتلك والمنتمون إليها يشترون الحذاء بألف جنيه؟ الحكايتان تستطيع سيادتك قراءتهما على محملين، الأول منهما، أن ما يجرى الآن هو أمر طبيعى جدًا ومعتاد، وأن البلد يمر بمرحلة انتقالية، وقريبًا ينطلق الاقتصاد من رقدته التى طالت، وستأخذ الأحوال فى التحسن خطوة خطوة، وما علينا- نحن أبناء الطبقة المتوسطة- سوى الانتظار.. فكم عانينا ظروفًا مشابهة من قبل. ويترتب على هذا الطرح، ضرورة أن نربط الأحزمة على البطون قليلًا، وبلاها يا سيدى الأحذية أم خمسمية وستمية، والقمصان أم ألف وألفين، ولنعد إلى المنتج المصرى الأصيل، المصنوع من الكستور وصوف المحلة وتيل نادية، ويا عم الحاج، على قد لحافك مد رجليك.. وعش عيشة أهلك. ماشى.. لا مانع.. لكن السؤال هو: وأين بالضبط نجد هذا المنتج المصرى؟ وإذا وجدناه فبكم سعره يا ترى؟ ثم هل المسألة مقصورة على اللبس فقط.. أم أن للأكل حكاية أخرى؟ سيبك من – لامؤاخذة – الجزمة، وانزل إن شئت تشترى لحمًا وسمكًا وخضارًا وفاكهة.. وقل لى كم تتكلف تلك المتطلبات. وحاشاك أن تقول «بلاها أكل»، لأنك بذلك ستكون كمن يقول لنا» روحوا كمّلوا عشاكو نوم». نعم.. لا يختلف أحد على أن الشعوب فى لحظاتها الصعبة مطلوب منها أن تتقشف قليلًا، وأن تغير من مسلكها الاستهلاكى، وهذا أمر صحى ويجب البدء فيه فعلًا، وقد عاشته شعوب كثيرة قبلنا، إلا أن السؤال هنا: أليس يكمل تلك الرؤية نصف آخر يقول إن على الجميع أن يتشاركوا فى حمل العبء، وأن « القفة التى لها أذنان.. يجب أن يحملها الطرفان»، فهل حمل الطرفان القفة؟ هذا هو المحمل الأول، أما المحمل الثانى، فهو أن ضغط الطبقة المتوسطة حتى عصرها عصرًا، خطر جسيم على سلامة المجتمع الاجتماعية. وبالتأكيد فإن هذا الكلام قرأناه وسمعناه من قبل كثيرًا، لكن الجديد هذه المرة، هو فقدان الثقة فى الجنيهات التى فى جيبك، والنظر إليها باشمئزاز وحسرة، رغم أن عملة البلد الوطنية رمز لعزتها وكرامتها الوطنية، وكيف ستحترم ورقة عليها رسومات جميلة لكنها لا تشترى شيئًا؟ خطورة هذا الأمر، هي تزايد المخاوف من أن يتمدد الازدراء ليمتد إلى بقية الرموز، وعلى سبيل المثال، ستسمع الشباب يقولون لك: وما جدوى التعليم أصلًا إذا كنت سأخرج منه لأجلس بالمقهى؟ أو سترى من يحتقرون الإعلام، الذى هو رمز من رموز قوتك الناعمة، وقل الشىء ذاته عن الفنون والآداب والثقافة بمعناها العام، ومن ثم تتسرسب من بين يديك كل قواك الناعمة، نتيجة لضعف قيمة جنيهاتك. لا.. بل وقد يصل الأمر إلى احتقار قيم وعادات وتقاليد راسخة، لطالما أبقت على تماسكك الاجتماعى، وميزتك عن بقية الشعوب المحيطة بك، ومنها النظرة إلى الدين نفسه، باعتباره سماحة ووسطية وقبولًا للآخر، وهو ما يهد ركنًا أساسيًا من أركان الشخصية المصرية. ثم، من يضمن لك ألا يبلغ الأمر حد ازدراء القانون نفسه، ومعلوم للكافة أن القانون هو حائط الصد الأهم الذى يحول بين المجتمعات والسقوط، لا سمح الله. والخلاصة، أنه عندما يعجز الجنيه عن شراء حذاء، فعندئذ يجب أن تحط يدك على قلبك. لمزيد من مقالات سمير الشحات