أعلنت منظمة الشفافية العالمية مؤخرا عن مؤشر مدركات الفساد لعام 2016. وقد تراجع ترتيب مصر من 88 في عام 2015 إلى 108 (من 174دولة) في 2016، وذلك بفعل انخفاض درجتها من 36 إلى 34 (100 الحد الأقصى للمقياس). وقد سبق هذا إصدار مقياس أو باروميتر الرشوة الذي حصلت مصر فيه على ترتيب 66 من 95 دولة شملها المسح، حيث أقر 36% ممن شملهم المسح في مصر بأنهم مضطرون لدفع رشوة لإنجاز معاملاتهم. هناك مؤشرات أخرى يصدرها البنك الدولي وكذلك المنتدى الاقتصادي العالمي تتوافق كلها في استمرار الفساد والضعف المؤسسي في مصر كعائق رئيسي في تهيئة بيئة مناسبة لتحقيق التنمية وزيادة التنافسية وجذب الاستثمارات. وهذا العائق يمتد ليضعف قدرة الدولة على تحقيق العدالة فيما تقدمه من خدمات وليصيب موازنتها بالعجز ويجعل الدين العام يتضخم ويتفاقم. ويعتبر الفساد أحد أهم عوامل الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها مصر حاليا، بالنظر إلى أنه يبدد موارد الدولة ويشوه السياسات العامة ويغير من بوصلة البرامج الحكومية. وبصرف النظر عما يمكن أن يوجه من انتقادات لهذه المؤشرات الدولية، فالأجدى أن تؤخذ بعناية وجدية لأنها ترتبط في أغلب الدراسات بمؤشرات التنمية والاستثمار والاستقرار والعدالة الاجتماعية، وهي ضمن العوامل التي تحدد جاذبية وجدوى الاستثمار في بلد ما. وفيما يلي بعض المقترحات المستقاة من الخبرات الدولية في هذا المجال.
أولا: تغيير منهج واستراتيجة التصدي للفساد. تتصف التجارب الناجحة الآن خاصة عندما يكون الفساد متغلغلا ومنتشرا بأنها تقوم على الآتي: (أ) تتضمن الاستراتيجية الخطوط العريضة للتوجه والأهداف مع التركيز على آليات الوقاية والمنع بصفة عامة من خلال إدخال إصلاحات مؤسسية لسد الثغرات التي ينفذ منها الفساد ولزيادة المناعة ضده، مع مزجها بالردع والحسم فيما يتعلق بالفساد الكبير؛ (ب) التركيز على قطاعات ومؤسسات ذات أهمية وأولوية لتأثيرها على التنمية (مثل أجهزة التعامل مع المستثمرين والقطاع الخاص) أو بحكم انها تتضمن تبديد موارد عالية (مثل الجمارك والضرائب والإسكان) أو لأنها تمس قطاعات واسعة من الجماهير (مثل الصحة والتعليم)؛ (ج) أن تستند الاستراتيجية إلى بيانات عن خريطة الفساد وأنماطه ودرجة تغلغله جغرافيا ومؤسسيا، وإلى دراسة لتحليل المخاطر Risk Analysis المتعلقة بإمكانية حدوثه فى منظومة القرارات والسلطات التقديرية خلال مراحل ودورة العمل في القطاعات والمؤسسات المختارة التي سيتم التركيز عليها لسد الثغرات المتعلقة بهذه المخاطر؛ (د) مشاركة الأطراف التنفيذية ذات العلاقة في القطاعات والمؤسسات المختارة وكذلك مشاركة الخبراء المتخصصين في هذه المجالات في الدراسات المتعلقة بخريطة الفساد والمخاطر وفي وسائل سد الثغرات المتعلقة بها، حيث لا تملك مؤسسات مكافحة الفساد (الرقابة الإدارية في الحالة المصرية) مثل هذه الخبرات، هذا فضلا عن مشاركة الأطراف المجتمعية ذات العلاقة مثل المجتمع المدني والقطاع الخاص والخبراء المستقلين وقيادات الرأي في مناقشة وإقرار الاستراتيجية؛ (ه) أن تتضمن الاستراتيجية نظاما لقياس الإنجاز والتقدم المحرز، وأن يتم هذا القياس من خلال جهات خبرة مستقلة وموثوق بها، وليس من خلال الجهة المسئولة عن وضع وتنفيذ الاستراتيجية، وأن يتم الإعلان عن هذه المؤشرات لضمان الشفافية التي هي مستهدف الاستراتيجية، ولا يتصور أن يكون هذا الركن غائبا في عمل جهود مكافحة الفساد. ويمكن القول إن كل هذه العناصر غائبة في الحالة المصرية.
ثانيا: إعادة هيكلة مؤسسات مكافحة الفساد والهيئات الرقابية. عندما تتعدد ويزدوج عمل الأجهزة والهيئات المنوطة بمكافحة الفساد والرقابة، يصبح هذا مدعاة لتشتت الجهود وضعف تكاملها. ولن يكفي لعلاج هذا التشتت تكوين لجنة او لجان تنسيقية (مثل الحالة المصرية)، فالأصل أن تكون هناك هيئة واحدة لمكافحة الفساد خاصة في حالة البلاد التي تعاني بشدة الفساد مثل مصر، لتوحيد المسئولية، بحيث تقوم بمختلف المهام الخاصة بتحقيق تكامل وتنسيق الاستراتيجية والسياسات والمبادرات الخاصة بالمنع والوقاية وكذلك جهود وبرامج المكافحة والملاحقة بما في ذلك الدراسات اللازمة لهذه السياسات والمبادرات. ويعني هذا في الحالة المصرية تحويل هيئة الرقابة الإدارية إلى هيئة وطنية للنزاهة ومكافحة الفساد مع فتح المجال لتزويدها بكوادر مدنية وإعادة هيكلة أدوارها وأساليب عملها لتكون أكثر شفافية وانفتاحا مثل الهيئات الناجحة النظيرة في العالم. .
ثالثا: سد الفجوات المؤسسية والتشريعية المتعلقة بالفساد. تفيد الخبرات العالمية بأن تضييق الخناق على الفساد وحصاره وكشفه وردعه، يتطلب مجموعة متكاملة من التشريعات والإصلاحات المؤسسية التي أن لم توجد، يكون في هذا تعطيل وتعويق في إحراز نجاحات في هذا المضمار. وتتمثل أهم هذه التشريعات والإصلاحات في الآتي: (أ) التحول في نظام الإدارة والموازنة والرقابة إلى التركيز على الأهداف والنتائج والإنجاز، وينبغي أن يقترن هذا بتبسيط غابة القوانين واللوائح والإجراءات وتفتيت المسئوليات التي تمثل في مجملها بيئة مهيأة للفساد؛ (ب) اختيار قيادات كفء ونزيهة خاصة في القطاعات والمؤسسات المستهدفة وتوفير بيئة مناسبة لعملها ومنحها صلاحيات لإصلاح أنظمة العمل في مؤسساتها؛ (ج) إدخال إصلاحات جوهرية في نظم العمل الحكومية وعلى رأسها نظام الخدمة المدنية ونظام المشتريات وإدارة الأصول الحكومية، ويمثل نظام وهيكل الأجور أحد المستهدفات الهامة هنا، فالهيكل المتضمن في القانون الجديد بكل مستوياته ومجموعاته الوظيفية يعتبر محرضا ومحفزا للفساد خاصة مع الارتفاع الجنوني للأسعار خلال الفترة الأخيرة؛ (د) لن يتحقق حصار الفساد إلا بالإسراع في إصدار مجموعة من القوانين منها قانون حماية المبلغين والشهود على غرار النماذج العالمية الناجحة، وقانون إتاحية والحق في المعلومات خاصة ما يتعلق منها بالماليات الحكومية، وقانون شامل لمنع تضارب المصالح بكل أشكالها، وتغيير جوهري في قانون العقوبات يتعلق بجرائم الفساد يحدد نوعياتها ويشدد ويغلظ العقوبة عليها.
أستطيع أن أؤكد أن إحراز تقدم ملموس عبر الجبهات السابقة كفيل بتحقيق تحسين جوهري في مركز مصر في المؤشرات الدولية وفي حصار الفساد وتحجيمه فضلا عن تهيئة بيئة ومناخ أفضل للاستثمار والأعمال، وللتنمية بشكل عام. ولن تجيء هذه الإصلاحات في المنهج والآليات فعليا إلا بإرادة سياسية قوية وتوجيه ومتابعة مباشرة من قبل رئيس الدولة شخصيا.
لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور; رابط دائم: