فى خطوة نادرة، قفز الرئيس الإيرانى حسن روحاني، الأسبوع الماضي، إلى الشاطئ الغربى من الخليج العربي، زار سلطنة عمان والكويت، فى مؤشر على بدء ذوبان الجليد ومحاولة تطويق «الحرب الباردة» بين طهران وعواصم خليجية، خاصة الرياض، قفزة روحانى مثلت استجابة سريعة لدعوة «حوار» من الطرف العربي، حملها إليه وزير الخارجية الكويتية، قبل فترة وجيزة، فى ظل ظروف إقليمية ودولية ضاغطة على الجانبين.
أحد مساعدى روحانى دعا دول الخليج إلى استثمار الزيارة فى تحسين العلاقات، محذرا من أنها «فرصة لن تتكرر».. روحانى اعتبر أن «العلاقات الطيبة مع الجيران وأمن الخليج ركيزة سياسات بلاده بالمنطقة»، داعيا إلى «وحدة أكبر» بين السنة والشيعة الذين تعايشوا معا، بشكل سلمى طيلة مئات السنين، وتجاوز ما وصفه بـ «فوبيا إيران».
رقصات الغزل الإيرانية - الخليجية تأتى على «إيقاع القلق» من أيام قد تكون حبلى بمفاجآت غير سارة، على يد الرئيس الأمريكى ترامب، الساعى لإذكاء سياسة المحاور المتقابلة بالمنطقة. تفصح تلك «الرقصات» عن أن الديناصورات المنهكة تلهث صوب موائد التفاوض، بعد أن استُنزفت فى حروب الوكالة المتأججة من اليمن إلى سوريا ومن العراق حتى لبنان، ووصل القوم إلى الحقيقة الساطعة التى تقول إن «طلقات المدافع لا تحسم المعارك بين الأطراف المتقاربة القوة».. هذه الحقيقة، برغم بدهيتها، بدت غائبة عن اللاعبين الرئيسيين فى الخليج، زمنا طويلا، مما جر على الشرق الأوسط بأسره أزمات وجودية وحمامات دم، وأوضاعا كارثية، متفجرة بالأسي.
«الصلح خير» بالطبع، لكن من المبكر الحكم على نتيجة ما يجري: إما يكون نقطة تحول لترميم العلاقات وتجسير الفواصل العميقة الخليجية- الإيرانية، فى ظل فقدان الثقة المتبادل، وإما فرصة أخرى تضاف إلى قائمة «الفرص الضائعة» أو المهدرة.. ويظل سؤال يفرض نفسه بإلحاح فى خلفية الصورة: أين القاهرة من بوادر التهدئة أو التقارب بين طهران وعواصم الخليج، وهى الدولة العربية الأكبر، المعنية بأمن الخليج والمنطقة، فى ظل السيولة الشديدة وإعادة رسم خرائط الحدود والنفوذ القائمة على قدم وساق؟! وهل نشهد، فى يوم قريب، بوادر تفاهم مصري - إيرانى على غرارذوبان الجليد مع الخليج، أم أن هذه نقرة وتلك نقرة أخري؟!
تذكر عزيزى القارئ أنه منذ فترة أثار إعلان بأحد شوارع القاهرة، ضجة كبرى فى الخليج، الإعلان حمل صورة المرشد الإيرانى «خامنئي» وهو يلتقط صورة سيلفي، وخلفه معالم شهيرة بعدد من العواصم الخليجية، وهو ما اعتبره كاتب بارز، بدولة خليجية كبرى بمثابة «قلة ذوق»، ودليلا على توجه ما فى الانفتاح على إيران..!
للأسف، فضحت «واقعة الإعلان» خللا قارا فى بنية العقل العربي، وكشفت عن أنه يستطيع أن يحب أو يكره، أبيض أو أسود، لكنه قليلا ما يجرب أن يفهم، وهو لو فعل لأدرك على الفور أن الحب أو الكره هما أسهل الاختيارات، وأن الواقع أعقد بكثير، لذا تذهب الثنائيات الحادة بالعقل السياسى العربى إلى متاهات وأخطاء، وربما كوارث، لها أول وليس لها آخر. ومن ثم تتحكم عقدتا «الأبيض والأسود» و«حلال عليّ، حرام على غيري» فى رؤية بعضهم لدور القاهرة، بالنظر لظروفها الاقتصادية الصعبة، متوهمين إمكان تأميم قرارها، فى ملفات حساسة للأمن القومى المصرى والعربي، مثل الأزمة السورية.
من حسن الحظ، أن الدبلوماسية المصرية لاتسقط فى أسر الثنائيات القاطعة- إلا فى وقتها- انظر إلى مواقفها من أزمات سوريا وليبيا والعراق واليمن، أو استجابتها الوئيدة لرغبة طهران بإنهاء شتاء العلاقات الطويل، أوغض الطرف عن تعزيز دول خليجية علاقتها مع تركيا، مع أنها تقف فى خندق العداء السافر للحكم المصري، أو دعم البعض لسد النهضة الإثيوبي.
هذا ما يجعل مصر ملكة «الحلول الوسطي»، ورؤيتها الأصوب لإطفاء براكين الدم والضمانة للمصالح العربية والخليجية العليا، وهى مدعوة لإعطاء الضوء الأخضر لمساعى إيران اللاهثة للتصالح معها، إذ من الخطأ بمكان أن تظل علاقات البلدين مقطوعة، مراعاة لخاطر دول هى نفسها ترتبط بمصالح اقتصادية مع إيران، وتنسج معها حوارات خفية وظاهرة. عودة العلاقات بين القاهرة وطهران ستعزز أمن الخليج، ويتيح لمصر الملتزمة مبدأ «مسافة السكة» ملء فراغ القوة، وتقليل التوترات وتطويق الصراعات المذهبية، والاعتناء بالتنمية المستديمة ومكافحة الإرهاب. المرارات موجودة..نعم، إنما ينبغى ألا تقف عائقا، فقد عقدنا سلاما مع إسرائيل مصدر الخطر الأكبر، برغم كل شيء..!
[email protected]لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن; رابط دائم: