عندما اندلعت الثورة التونسية فى 17 ديسمبر 2010 كانت الأرض العربية حُبلى بكل أسباب الانفجار ، لكن اللحظة المفصلية فى تاريخ هذه الثورة ارتبطت بهروب زين العابدين بن على فى 14 يناير 2011 ، ففى هذه اللحظة وجد الشعب التونسى أن الكرة صارت فى ملعبه وأنه تخلص من نظام حكم الفرد بعد أكثر من نصف قرن. لكن المعضلة هى أن تونس التى ألهمت الجماهير العربية روح الثورة وشعاراتها وأدواتها لم تقدم لهذه الجماهير نموذجا لتأسيس نظام ديمقراطى مستقر لأنها هى نفسها كانت تبحث عن نموذج . فلقد غادر بن على قصر قرطاج فجأة وترك خلفه مجموعة من الأسئلة الكبرى تبحث عن إجابة من يتولى السلطة فى ظل عدم تنظيم الدستور ظاهرة هروب الرئيس ؟ أين موضع حركة النهضة فى المرحلة المقبلة ؟ كيف تُشَكَل الهيئة التأسيسية لوضع الدستور ؟ هل يتم عزل كل رجال بن على أم يجرى التمييز بينهم بعزل فريق ودمج آخر ؟ كان الكل منتشيا بإزاحة كابوس الحكم التسلطي، وكان الشباب والمرأة فخورين بدورهم فى تحقيق الإنجاز الكبير ، وبينما كان الحال على هذا النحو انتقلت شرارة الثورة إلى مصر ، وهنا بدأ فصل بالغ التأثير فى تاريخ الثورات العربية .
لم تكن مصادفة أن يكون يوم تخلى حسنى مبارك عن السلطة وتكليفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة البلاد هو نفسه اليوم الذى تفجرت فيه الثورة اليمنية : 11 فبراير 2011، صحيح أن نذر الانفجار كانت قدتجمعت فى سماء اليمن فى السنوات الأخيرة من حكم على عبد الله صالح لكن التداخل بين حلقات التاريخين المصرى واليمنى كان كفيلا بإعمال أثر الانتشار بشكل مباشر . زحف اليمنيون إلى ساحة التحرير فى وسط العاصمة ليحتفلوا برحيل مبارك ورددوا الشعار الأشهر «الشعب يريد إسقاط النظام» لتبدأ أحداث ثورتهم ، وإن هى إلا أيام قليلة حتى انفجرت الثورة الليبية . تداعى عدد من الشباب إلى التظاهر فى 17 فبراير 2011 احتجاجا على مساوئ حكم القذافى ، وانضمت إليهم أسر ضحايا سجن أبو سليم الذين جرت تصفيتهم بدم بارد عام 1996، ومن بنى غازى ثانى أكبر المدن الليبية انطلقت الشرارة .
فيما بعد أصبح شهر فبراير مرتبطا بانعطافات مهمة فى الثورات العربية ، ففى 6 فبراير 2013 اغتيل المناضل اليسارى الكبير شكرى بلعيد فأحدث اغتياله هزة فى المجتمع التونسى واتُهم أنصار النهضة بتدبير الاغتيال . كان التونسيون غير راضين عن أداء حكم الترويكا الذى انتقلت خلافات أطرافه من السر إلى العلن ، وكانوا مستائين من تلكؤ المجلس الوطنى التأسيسى فى إنجاز الدستور ، وكانوا مستفزين من محاولة النهضويين إلغاء بعض المكتسبات التاريخية للمرأة، وكذلك من استئثار النهضويين بالسلطة ، ثم جاء انعدام الأمن ليزيد من الغضب حتى إذا اغتيل النائب اليسارى محمد البراهمى تشكلت جبهة للإنقاذ كما حدث فى مصر و أصبح المستقبل مفتوحا على كل الاحتمالات ، وعند هذا الحد توسط المجتمع المدنى ولانت حركة النهضة .
فبراير أيضا جاء محملا بثلاثة تطورات فارقة بالنسبة للثورة الليبية ، الأول تشكيل المجلس الوطنى الانتقالى بعد أيام قليلة من اندلاع الثورة ، والثانى تكوين لجنة فبراير فى 2014 للخروج من مأزق انتهاء مدة المؤتمر الوطنى العام دون إنجاز الدستور ، والثالث التدخل الدولى فى مسار الثورة تحت بند معاقبة القذافي. كان تشكيل المجلس الانتقالى متعجلا بما لم يراع ضعف الخبرة السياسية للنخبة الليبية ، ومع أن أحد الانتقادات التى توجه للثورات العربية أنها كانت فاقدة للتنظيم إلا أن المجلس الانتقالى الليبى لم يكن الإطار التنظيمى الأمثل . أما تكوين لجنة فبراير فمع أنه كان لازما لحلحلة الوضع المتأزم إلا أنه تم الطعن لاحقا على عمل اللجنة مما أنشأ ازدواجية مؤسسية على كل المستويات . وأما الدور الدولى المبكر فإنه سرعان ماتحول إلى عمل عسكرى وبالتالى ساهم فى تأزيم الموقف وخلط الأوراق.
وفِى فبراير 2012 أصبح عبد ربه منصور هادى رسميا الرئيس الجديد لليمن بعد فوزه الكاسح فى الانتخابات الرئاسية ، ومثل هذا التطور لحظة الحقيقة التى فتح عينيه عليها على عبد الله صالح ، فحتى تلك اللحظة كان بوسعه أن يداور ويناور وأن يدعى أنه الرئيس المنتخب حتى وإن نقل السلطة إلى نائبه هادى ، أما بعد الانتخابات الجديدة فلقد تغير الوضع وشرع صالح فى تغيير استراتيجيته: تقارب مع الحوثيين للانقلاب على المبادرة الخليجية و أيضا على مخرجات الحوار الوطنى .
لم يعرف التاريخ الثورات التى تسير فى خطوط مستقيمة فقوة التغيير تقابلها قوة مضادة، ومن خلال التفاعل بين القوتين تتحدد ملامح النظام والدولة ، وها هو شهر فبراير يهل علينا هذا العام محملا بتطورات مهمة ، ففى تونس تم تجاوز عقدة تصويت الجيش والشرطة وسمح لهما بالانتخاب مما يمهد لإجراء الانتخابات البلدية المؤجلة وهو التطور نفسه الذى تنتظره مصر ، وفِى اليمن بدأ يحدث تغير فى موازين القوة لصالح معسكر الشرعية كما ظهر فى الصراع على الموانى مما قد يمهد الأجواء لتسوية سياسية ، وفى ليبيا تتكثف جهود التقريب بين رئيس المجلس الرئاسى و القائد العام للجيش مما يعطى الأمل فى إنهاء الانقسام الحالي. أما سوريا فمع أنها تمثل حالة خاصة بحكم سرعة تطوراتها وتوزعها على كل شهور العام إلا أن فبراير 2017 يشهد انعقاد مؤتمرى الأستانة وجنيف بالتوازى مع تغير الواقع الميدانى نحو مزيد من محاصرة داعش فى آخر معاقله ، وهذا يعنى أن بداية العام الحالى ستضخ زخما كبيرا فى مسار الثورات العربية .
لمزيد من مقالات د.نيفين مسعد; رابط دائم: