رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

عقاقير طبية أم أحجبة سريانية!

يقف المريض المصرى هزيلا شاحبا أمام طبيبه، فهو بالكاد يفك الخط العربي؛ فإذا بطبيبه هذا يرسم له روشتة من عقاقير بخطوط لاتينية تكتسب قداسة فورية. ففى تلك القصاصة توجد سلسلة من أدوية يعتقدها المريض ترياقاً يخفف آلامه، أو يهب من يحبه الشفاء. فلا عجب إذن أن يسعى المريض للحصول على العقاقير التى وصفها الطبيب دون أدنى تغيير أو بحث لبديل. فروشتة الطبيب تقترب فى قداستها وغموضها من الحجاب المكتوب بالخط السرياني. فما هى حقيقة تلك الروشتات؟ وكيف يحدد الطبيب أنواع العقاقير التى يصفها للمرضى؟ ولماذا تتفاوت تلك العقاقير فى أسعارها وأسمائها؟

وربما يجب أن نعرف أن لأغلب العقاقير بدائل تماثلها تماماً تتوافر فى السوق وفى العالم. فحقيقة الأمر أن أغلب العقاقير الطبية هى مجرد سلعة. فلكل دواء من العقاقير الطبية ثلاثة أسماء: (اسم كودي) يعرف به فى أروقة ومعامل الجامعات والشركات فى أثناء تطويره، ثم (اسم علمي) يتطور مرتبطا بتركيبته الكيميائية ثم (اسم تجاري). والأغلب أن لمعظم العقاقير العديد من (الأسماء التجارية). فشركات الدواء حول العالم تنتج عقاقير متطابقة لأى دواء فى أى مكان فور سقوط الحماية الفكرية عنه، وفور توافر مادته الخام، ثم تسعى بهمة لتحويل ذاك الدواء المتكرر إلى (منتج يبدو فريداً يرتبط به المستهلك) والذى نعنى به المريض! تماماً كما تقوم شركات الملابس أو الأحذية بالسعى لإيجاد ارتباط بمنتجها بينما هو فى الحقيقة مجرد حذاء أو (فانلة)!

ومن الأمثلة البسيطة دواء علاج الصداع والأوجاع (الباراسيتامول) وسميه التجارى (البانادول). فهما فى حقيقة الأمر ذات الدواء والمكون وذات المفعول إلا أن البانادول هو مجرد اسم تجارى جرى تسويقه عالمياً فأصبح للاسم التجارى قيمة تتجاوز القيمة العلاجية ذاتها، فصار المرضى أو المستهلكون يؤمنون بأن ذاك غير هذا. فكيف يدرك الإنسان الفرق بين تلك الأسماء المطلسمة بالغموض التى يروجها أطباء لهم فى نظر مرضاهم قداسة تقترب من شمهورش ملك الجان ذاك الذى يحيط به بخور وأحاجى الطب والشفاء. بل وكيف يتشكك مريضنا هذا أن طبيبه الذى يراه رمزاً للعلم والحكمة والنبل قد تقاطع مع مندوبى شركات العقاقير يحثونه على استخدام عقاقير بعينها. وتسمح الدولة لشركات الدواء بإنتاج عقاقير متماثلة للحصول على مزايا تسعيرية لصالح الناس، إلا أن الأمر بما يفتحه من ثروات هائلة تحول بالطبع إلى مضمار للتنافس وللشبهات. تتنافس شركات الدواء المصرية والعالمية إذن على الحصول على حق إنتاج تلك العقاقير المتماثلة، والتى يجب ألا يتجاوز عددها عشرة على الأكثر فى مصر. تتنافس الشركات للحصول على حق إنتاج تلك العقاقير، وللقارئ أن يتخيل مقدار الثروة التى تهبط على شركة ما، إذا حصلت على حق إنتاج (دواء يتماثل) مع أول دواء فى العالم لعلاج مشاكل العلاقة الجنسية مثلاً. إن شركات الدواء تصطف للحصول على هذا الحق بكل الوسائل! أليس من الأفضل أن يلغى التقييد على تلك المتماثلات ويترك الأمر للمنافسة على السعر فقط وضمان جودة الإنتاج؟

وتنتشر فى المجتمع أيضاً قناعة يتم تداولها بين الأطباء والجمهور ويروجها بعض الصيادلة وهى أن شركات الدواء المصرية تمارس الغش بشأن كمية المادة الفعالة المستخدمة فى العقاقير التى تنتجها. وتلك الشائعة مفيدة بالطبع للشركات العابرة للقارات تحديداً وهى شائعة تحولت فى أذهان البعض إلى حقيقة، نظراً لعدم معرفة الناس بحقيقة عملية إنتاج العقاقير الطبية. فكل التشغيلات الصيدلانية فى القطر المصرى معروفة ومسجلة ومصرح بها من وزارة الصحة ذاتها، وتخضع للتفتيش الصيدلى الدورى والمفاجئ. هذا التفتيش يتحرى كم الإنتاج وعدد الأقراص المنتجة ومكان الإنتاج ومواصفاته، كما تتم اختبارات تتحرى دقة التصنيع من كل جوانبه، ومنها بالطبع كمية المادة الخام. بل وإن الأمر أكثر تشددا فى صناعة المضادات الحيوية، ففى تلك الحالة يتم (تشميع أى تشغيله) لتلك المنتجات فى مصانعها حتى يتم التأكد من مطابقتها للمواصفات فى المعامل المركزية لوزارة الصحة. وبالإضافة لكل ما سبق فإن دافع الغش التجارى فى كمية المادة الخام غير متوافر؛ فتكلفة المادة الخام الموجودة فى أى دواء من الضآلة بحيث ينعدم الدافع لهذا الغش.

العملية العلاجية أوسع بكثير من استخدام العقاقير الطبية، لكن غياب الدولة عن الصحة بمفهومها الواسع وغيابها عن ضبط العلاج وتقديم مصادر المعرفة للمرضى وللأطباء يتركهم نهباً لشركات العقاقير. فتلك تتمدد فى كل الدول الفقيرة ومنها المجتمع المصرى من خلال ما يعرف باسم (المكاتب العلمية). وتلك المكاتب العلمية هى فى حقيقتها مكاتب للتسويق. ولن أنسى كيف أن طبيبة بارزة بأحد الأقسام التى عملت فيها فى بريطانيا كانت تمنعنا كأطباء صغار من مقابلة مندوبى شركات الأدوية. حيث كانت تصف هؤلاء المندوبين بأنهم تجار مدفوع لهم أموال للكذب لترويج عقاقير بعضها بلا فائدة وبعضها ضار.

إن ما نواجهه من مشاكل فى صناعة الدواء ليس أمراً خاصاً بمصر. ففى بريطانيا مثلاً لا يكتب الأطباء الأسماء التجارية للعقاقير الطبية. وهذا فى ذاته يقلب معادلات تجارة الدواء تماما. فهو - بداية - يحاصر الخداع التسويقى للطبيب والمريض عن منتجات هى فى حقيقتها متطابقة. وتقوم الصحة البريطانية كمثال بشراء واستيراد ما تحتاجه من عقاقير من أى شركة. وتتنافس الشركات فى بريطانيا وحول العالم على السعر فى عطاءاتها شديدة التحديد والدقة فى شروطها وأسعارها. ويصرف الأطباء البريطانيون العقاقير بأسمائها العلمية؛ لذلك فالاسم التجارى لا قيمه له. وقد وفرت ميزانية الدولة فى بريطانيا مليارات الجنيهات نتيجة لهذا الأمر.

إن جزءاً كبيرا من البحث العلمى فى العالم المتقدم يتجه نحو استخلاص ما هو مفيد وما هو مضلل بشأن العقاقير الطبية. ولقد أنشأت الدولة فى بريطانيا فى العقد الماضى (المعهد القومى للتميز الإكلينيكي) وهو مؤسسة مستقلة تخلق المعرفة فلا راد لتقاريرها؛ ولا تهدف إلا التحديد العلمى الدقيق لما هو مفيد، وما هو بلا أى فائدة علاجية حقيقية. فهكذا تتكون لدى الطبيب قناعات علمية توصل إليها رجال ونساء هم علماء لا تحكمهم إلا مصلحة المريض والإنسان. ربما يجب أن تختبر الدولة أفكاراً كتلك. وربما أتى أوان منع الأطباء من استخدام الأسماء التجارية للعقاقير الطبية. وربما أيضاً أتى زمان دخول الدولة فى عملية توزيع عقاقير طبية بعينها من خلال (الجمعيات التعاونية) ذاتها للسيطرة على سعرها وللتفرقة بين الغث والسمين.


لمزيد من مقالات د‏.‏ حازم الرفاعي;

رابط دائم: