رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

يوتوبيا أم ديستوبيا ؟!

تتردد كلمة يوتوبيا كثيرا في سياقات ادبية وسياسية سواء كان المقصود بها السخرية من اطروحات مثالية يحلم بها من لم يفقدوا رومانسيتهم بعد او الوعد بتحقيق فردوس ارضي يكتمل فيه ثالوث الحرية والمساواة والعدالة، لكن نادرا ما ترد الكلمة المضادة لليوتوبيا او المدينة الفاضلة وهي الديستوبيا او المدينة الراذلة والتي تصبح الحياة فيها لا تطاق لأن ما يكتمل هو الجحيم، ومن حلموا ذات يوم باليوتوبيا على اختلاف الثقافات واللغات كانوا يعبرون عن ضيقهم بالواقع وعجزهم عن تغييره ولاذوا بالخيال كي يرسموا مشاهد مضادة لكل ما يعانون منه، والخيال كان يذهب بهم الى الماضي لتصور عصر ذهبي ولّى او الى المستقبل من خلال رؤى واحلام يقظة تفاؤلية لا صلة لها بالواقع، ولو شئنا استحضار مثال من هذا التخيل لليوتوبيا فهو ما اورده هزيود عن العصر الذهبي الذي تخيّل بان البشرية عاشته ثم حرمت منه يقول : كان البشر يعيشون في تلك الايام مثل الآلهة، وقد تحررت قلوبهم من المشاغل ولم يعرفوا الشيخوخة لأن اعمارهم كانت ربيعا دائما ولم يعرفوا الامراض، وكانوا يموتون كما لو انهم ينامون بعد ان يشتد عليهم النعاس، وبعد قرون طويلة مما كتبه هزيود تغير المشهد جذريا واصبح الفلاسفة والمصلحون والثوار يتخيلون هذه الجنة وهي قادمة من المستقبل، ومن هؤلاء مثاليون رومانسيون وواقعيون ايضا .

وعلى سبيل المثال كتب الشاعر ناظم حكمت وهو ماركسي قصيدة بشّر فيها بأجمل الاطفال الذين لم يولدوا بعد وأبهى القصائد التي لم تكتب بعد، وذلك انطلاقا من قناعة مادية بالحتمية التاريخية التي شكك الفيلسوف هيجل بها مبكرا حين تحدث عن مكر التاريخ ومباغتاته غير المتوقعة والمحسوبة.

وبالنسبة لشعراء من طراز ناظم حكمت وبرتولد برخت وبعض الشعراء الماركسيين العرب كان الرهان على الفردوس القادم حين يحسم الصراع لصالح الطبقة التي عانت من الاستبداد على امتداد التاريخ منذ سبارتاكوس حتى ثورة اكتوبر الروسية عام 1917 لكن الشاعر والمسرحي برخت الذي عرفه القارىء العربي من خلال عدة مسرحيات قدمت له في اكثر من عاصمة عربية رأى ما هو أبعد، وتخيل ان الفردوس الموعود لا المفقود هو مدينة اسمها بيلارس والناس جميعا يحلمون بالوصول اليها لأنها تشفي المرضى وتحقق الوصال للمحرومين وينعم فيها حتى المتسولون بالتخمة والرفاهية، لكن من حلموا بتلك المدينة صحوا ذات صباح على نبأ فاجع هو ان بيلارس دمرها الزلزال، فهل كانت بيلارس المدينة المتخيلة هي اسم مستعار لثورات وكومونات وانتفاضات في التاريخ .

هذا السؤال يعيدنا الى العديد من المنعطفات واللحظات الفارقة في التاريخ الانساني، فالثورة الفرنسية التي بشّرت بأعز ما يتمناه البشر وهو أقانيم الحرية والمساواة والعدل اكلت ابناءها، وكان من ضحاياها علماء وشعراء وفلاسفة نذكر منهم عالم الفيزياء لافوازيه الذي القي رأسه في سلة القمامة، كما افرزت مثقفين لا يمتون بصلة الى السلالة الفكرية التي أدت الى الثورة من طراز الماركيز دو ساد الذي يّنسب مصطلح السادية والتلذذ بالتعذيب اليه، فالثورات تولد من صلب التاريخ لكن حين يأزف مخاضها قد تتعرض للاختطاف او تصاب بوصلتها بالانحراف، لكن اخطر اليوتوبيات التي تحولت الى ديستوبيات هي تلك التي ترتكز الى مرجعيات اسطورية وخارج مدار التاريخ، فأرض الميعاد او الجغرافيا التوراتية بالنسبة للصهيونية هي يوتوبيا تشبه مدينة بيلارس التي تحدث عنها الشاعر بريخت ، لكن ما الذي حدث بعد ان تحقق الوعد لكن بقوة التاريخ الغاشم وليس بقوة الاسطورة، فمن اعطى ارض الميعاد للصهيونية هو اللورد بلفور وليس قوة غيبيّة، وما إن صدق يهود العالم ان اليوتوبيا تحققت حتى بدأوا يكتشفون انها ديستوبيا وهذا ما يقوله كتّاب يهود طالما وصفوا من الدوائر الصهيونية بالعقوق الديني من امثال شلومو رايخ في كتابه يوميات يهودي ساخط، واسرائيل شاحاك في ثلاثة كتب على الاقل شكك من خلالها بالاسطورة والوعد معا، وكذلك المؤرخون الجدد بدءا من نبي موريس حتى شلومو ساند صاحب كتاب اختراع الشعب اليهودي ، وليست اسطورة ارض الميعاد هي اليوتوبيا الوحيدة في التاريخ المعاصر، فهناك نظم توتالية او شمولية وعدت الشعوب المبتلاة بها بالفردوس ثم انتهت الى ما يشبه معسكرات الاعتقال الجماعية، ولعلها السبب في بث ثقافة مضادة للشفافية وإعلام جدانوفي نسبة الى الرقيب الستاليني المعروف جدانوف، مما دفع كاتبا روائيا هو ميلان كونديرا الى كتابة مقالة بالغة الاهمية بعنوان كثافة السلطة وشفافية الفرد، ففي تلك النظم كانت الدولة تزداد غموضا وبيروقراطية وتعلو اسوارها، اما الفرد فهو الذي تعريه الاستمارات والمعلومات وحين تخيّل جورج اورويل ديستوبيا قادمة في القرن العشرين من خلال روايته الشهيرة 1984 لم يخطر بباله ان هذه الديستوبيا او المدينة الراذلة ستكون رأسمالية ايضا وليست فقط شيوعية، وما كتبه عن تسلل الشقيق الاكبر او الرقيب الى دورات المياه وغرف النوم يشكو منه الان الانجليز انفسهم بعد ان تكاثر عدد الكاميرات والامريكيون ايضا بعد ان اصبح التنصت والتجسس على الحياة الشخصية للأفراد مشروعا لاسباب امنية طارئة .

ان ثنائية اليوتوبيا والديستوبيا هي المعادل الموضوعي لثنائية الخير المطلق والشر المحض، او لثنائية الشياطين والملائكة، فالفضيلة في هذا العالم ليست موجودة بصفاء كامل وكذلك الرذيلة لأن الانسان فيه الخير والشر معا، ونوازع الوفاء والغدر معا، لهذا اتاحت له حتى العقائد السماوية التوبة بعد كل ما يقترف من خطايا لأنه غير معصوم على الاطلاق والمعصومية صفة رسولية فقط .

لكن هل معنى ذلك هو ان تبقى الافكار والاطروحات البشرية الهادفة الى ما هو افضل وانبل في طور عذري بحيث تمتنع عن الوصول الى السلطة كما كان يمتنع الشاعر العربي العذري عن الوصال مع من يحب، ويفتعل العقبات التي تعمّق القطيعة !

ولعل ما اضافته الحفريات المعرفية في مختلف العلوم الانسانية وفي مقدمتها السايكولوجي والانثروبولوجي يحرر العقل البشري من تلك الثنائيات التي تصنف البشر الى ابرياء وقتلة وملائكة وشياطين واحرار وعبيد، واذا كان لا بد من تلقيح يجنب الناس الصدمات فإن امصال هذا التلقيح ثقافية بامتياز، ولو قيّض للعرب ان يتلقحوا للوقاية من تكرار الصدمات التي تشككهم بكل ما ورثوا وسمعوا وقرأوا لتغير المشهد جذريا واصبح لديهم وعي بما يسمى الاعراض الجانبية المصاحبة للثورات والانتفاضات وكل انماط الحراكات الاجتماعية والسياسية .

لكن المراوحة بين الفاضل والراذل او بين اليوتوبيا والديستوبيا تحول التاريخ برمته الى قمح وزؤان فقط، وبالتالي يسود الاختزال الذي سماه السايكولوجست المصري د . مصطفى حجازي من آفات التخلف، وننتهي بحيث تتلاشى الظلال الانسانية كلها بين الابيض والاسود !


لمزيد من مقالات خيرى منصور;

رابط دائم: