رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
لماذا أخفقت الثقافة المصرية الراهنة في أن تشكل سياقا طليعيا، ولماذا فشلت في التأثير في الفضاء العام، ولماذا غابت عن معركة الأمة المصرية ضد قوى التخلف والرجعية؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير تمثل جوهر الأزمة الراهنة حيث تراجعت القوة الناعمة المصرية، وتقوض معناها بفعل عشرات الأشياء التي لا يمكن لأي متابع موضوعي أن يتجاهلها. يرتبط وهج الثقافة بوهج المشروع السياسي، فيتجادلان معا، ويشكلان أفقا للتحرر من سطوة الموروث بتنويعاته، بدءا من الموروث المقيد للعقل ووصولا إلى الموروث الاستعماري الذي يشكل حجابا على الإرادة، وبذلك تصبح الثقافة نفسها معنى للاستقلال الوطني والانفتاح الحر على كافة القيم الإنسانية النبيلة، والمعارف الجديدة. غابت البوصلة منذ السبعينيات التي كانت قوسا كبيرا بين عالمين متمايزين، فالمقولات الكبرى التي دشنتها ثورة يوليو 1952، وإنجازها النوعي في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تعرضت لانتكاسة شديدة وتراجع في المعنى في السبعينيات، بدءا من الالتحاق بركب الرأسمالية العالمية المتوحشة، والوقوع في فخ التبعية السياسية، ووصولا إلى أسلفة المجتمع بفعل الهجرات المستمرة إلى عوالم الوفرة النفطية والتدين الظاهري، وأصبح المعنى الثقافي يحيا تبعية ذهنية، واستلابا صوب الموروث السلفي الماضوي من جهة، وصوب المركز الأمريكي من جهة ثانية. وهذا الهجين خلف تشوهات عديدة في الروح المصرية وأفقها الفكري. وتأثرت الثقافة ولا جدال، غير أنها ظلت تقاوم عبر عشرات المثقفين الطليعيين الذين لم يزل التاريخ الأدبي والثقافي يدين لهم بالكثير، وعلى الضفة الأخرى وجدت السلطة السياسية ضالتها في مجموعة جديدة من مثقفي اليمين الليبرالي تتواءم مع الحقبة الساداتية الجديدة، وامتداداتها في عهد مبارك، وإن كانت بصيغ ووجوه مختلفة. واستمر الحال حتى استقرت الثقافة على النهج الكرنفالي ورأته جوهرا لكل شيء، وأصبح التصور الكرنفالي الصاخب، والفارغ من المعنى والقيمة جوهرا للفعل الثقافي، بل وصار يتوحش مع الزمن ويزداد هيمنة على الفضاء العام، حتى وصلنا الآن إلى تمثل دقيق للمثل العربي الشهير: “إني أسمع جعجعة ولا أرى طحينا”. ومع كل تحول في المناخ العام كان ثمة تحول في معنى الثقافة ذاتها، وكان ثمة تراجع في صوة المثقف ذاته، هذا المثقف الذي خرج من برجه العاجي القديم، ليصبح في نماذجه السامقة مثقفا عضويا في الستينيات والسبعينيات، ويصير كرنفاليا صاخبا في الثمانينيات والتسعينيات مع نماذجه المولعة بالسلطة، ثم نموذجا لانحسار المعنى الثقافي وانحطاطه في السنوات الأخيرة مع نماذجه المولعة بالجهل والسلطة معا. وكان ارتباط هذا المعنى العام في إحدى صوره الدالة تعبيرا عن ازدهار المؤسسة الثقافية أو ترهلها وعجزها. إن مؤشرات الأزمة المعرفية التي نحياها والتي تشكل جانبا مركزيا من وضعنا المأسوي في ذيل العالم، لن تحلها الأمنيات، ولا الآمال الكبرى التي تعتمد على الحماس أكثر من اعتمادها على العقل، فالذهنية القديمة والخيال البائس لن يسهما في مجابهة المد الرجعي المهيمن على المجتمع المصري، ولن يستطيعا تشخيص الداء من الأساس لأنهما وباختصار غارقان في التخلف العام، وتجديد الخطاب المعرفي بتنويعاته الدينية والثقافية يحتاج مساءلة شجاعة للموروث، ومواجهة حاسمة للبؤس الثقافي الراهن. كان لتراجع معنى المثقف ودوره أيضا أثره البالغ في تراجع معنى الثقافة ذاتها، خاصة مع تآكل ملحوظ للنخبة المصرية، وتحول قطاعات واسعة منها إلى محض تقنيين، منعدمي التأثير في الفضاء العام، بل بالأحرى في محيطهم المباشر. وفي ظل هذه الظروف السياسية والثقافية المرتبكة والمعقدة استشرى خطاب التخلف، وصنع أنصارا وموتورين، وانسحب الأمر ذاته على الداخل الثقافي، ورأينا حضورا مكثفا لليمين الديني الذي حل محل اليمين الليبرالي، مع تغييب عمدي لكل قيم الاستنارة الحقيقية بمعناها الفاعل وليس بتصورها “الكومو فلاش”، وأصبحنا أمام إعادة إنتاج للماضي على نحو أكثر تعاسة، في ظل غياب تام للمؤسسة الثقافية الحاضرة في افتتاح الكرنفاليات الطيبة وإغلاقها فقط، واختفى الحس الإبداعي، وصار مسئولو الثقافة الرسميون أكثر بيروقراطية، وبدأت الثقافة الرسمية تضيق حلقاتها أكثر، ومن ثم ينعدم تأثيرها في الفضاء العام. يرتبط نجاح الثقافة أو إخفاقها في مدى قدرتها على تطوير الوعي، وصياغة الوجدان العام على نحو أكثر جمالا وحرية وإنسانية، فضلا عن القدرة على خلق خيال جديد، ينتقل بالإنسان الفرد من ذهنية النقل إلى ذهنية العقل، ومن ذهنية القطيع التابع إلى ذهنية الفاعل المبدع، وهذا جميعه يبدأ من التوظيف المثالي لكافة القدرات الإبداعية والطاقات الخلاقة في الفنون والآداب المختلفة، من سينما ومسرح وفن تشكيلي وشعر وسرد وفكر، وصولا إلى النفاذ إلى جوهر الثقافة ومعناها حين تصير بحثا عن عالم أفضل، أو حين تصبح معنى فريدا ونبيلا تتحقق من خلاله إنسانية الإنسان عبر هذه القوى الفكرية الملهمة للروح والعقل والوجدان. فهل وزارة الثقافة لدينا بهيئاتها المختلفة فعلت شيئا ذا بال في هذا المضمار؟ أو قدمت إجابات عملية لهذه الأسئلة التي يبدو أنها ستظل أسئلة سرمدية لأن الإجابة عنها تحتاج إلى الفعل الحقيقي وليس الرطان الفارغ والكرنفاليات الصاخبة، والسؤال الختامي هنا هو عين الجواب، وهو للأسف أيضا شاهد المأساة والمحنة التي عصفت بحرية الفكر والتعبير في أكثر من واقعة مؤسفة لم تكن فيها للمؤسسة الثقافية الرسمية أي دور في مواجهة الهجمة الشرسة على مبدعين وباحثين دفعوا ثمن ما يؤمنون به من أفكار. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;