رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

هكذا نواجه عصر ترامب

كان من أهم نتائج اتفاقية ويستفاليا 1648م مبدأ اتفقت عليه جميع القوى الأوربية المشاركة فى المؤتمر، وهو الاتفاق على نقطة ثبات مرجعية لجميع الكيانات الأوروبية التى كانت موجودة عند توقيع الاتفاقية، بما يعنى الاعتراف بأن الكيانات التى كانت قائمة فى ذلك الوقت سواء أكانت البابوية أو بقايا الإمبراطوية، أو الممالك أو المقاطعات... الخ، جميعها كيانات ذات سيادة، ولا يحق لأحد أن يشكك فى سيادتها، أو يقسمها أو يوحدها إلا بكامل إرادتها الحرة.

هذا المبدأ تبنته منظمة الوحدة الإفريقية، ثم الاتحاد الإفريقى الذى ورثها، فيما عرف بقدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار، .أما الدول العربية فللأسف لا توجد بينها، أو فيها نقطة ثبات مرجعية، بحيث صار لكل دولة، ولكل فرد أن يقرر نقطة الثبات المرجعية التى تحقق مصالحه وتبرر تحيزاته، واعتداءاته، وهنا أصبحت كل الاحتمالات مفتوحة، وصار لكل مجموعة خيارها، وأوشك المجتمع على أن يفقد عرى التماسك، ووشائج التواصل، وقد بدأ هذا الخلل مع نشأة الدول العربية الحديثة؛ التى ورثت أسوأ ما تركته الدولة العثمانية من نظام الملل والطوائف الذى قسم المجتمعات العربية، وخلق بين سكانها شروخاً، ومرارات لم تشفَ منها حتى اليوم. فقد كانت الدولة العثمانية عنصرية عرقية فى جوهرها، تقوم على أولوية العنصر التركي، وتعلى هذا العرق وكل توابعه على جميع الأعراق والأجناس الأخري، لذلك كان منهجها فى حكم الشعوب التى أدارتها يعتمد على تقسيم هذه المجتمعات؛ سواء إلى مذاهب وملل، أو إلى أعراق وأجناس، وقد تم تقنين هذا الوضع فى نظم الدولة الإدارية، ومازالت هذه القوانين سارية إلى تاريخ اليوم، ولعل أشهرها الخط الهمايونى المتعلق بأقباط مصر.أما فيما قبل الدولة العثمانية فلم تكن هناك أقليات بالمعنى السياسى الذى نعرفه اليوم، وإنما كان التمايز الوحيد بين المواطنين يتعلق فقط بنظام الضرائب وهو نظام فردي، وكانت المواطنة بالمعنى الذى نعرفه تنظم المجتمع جميعه، لذلك كانت مثلا جميع بيروقراطية الدولة فى جميع وزاراتها «الدواوين» يديرها مسيحيون من جميع الطوائف فى مصر والشام والعراق وبلغاتهم السيريانية أو القبطية من عصر الخلفاء الراشدين حتى سنة 84 هجرية، حيث تم تعريب الدواوين، أى تغيير اللغة مع بقاء هيمنة غير المسلمين على إدارتها، وقد ظل هذا ساريا إلى عصر صلاح الدين الأيوبى الذين كان فى عصره مسيحياً مصرياً ناظراً لديوان الجند، أى وزير مدنى للجيش، اسمه الأسعد بن مماتي، وقد ظلت أسرة ابن مماتى تتولى ديوان الجند أجيالا عديدة.ومن زواية أخرى كانت المكونات العرقية المختلفة متساوية الحقوق والواجبات، ولم يكن ينظر إليها حسب أصولها وأعراقها، وإنما حسب كفاءات وإنجازات أفرادها، لذلك تولى حكم مصر فى القرن الثالث الهجرى أحمد بن طولون وأسرته من بعده، وهو من العرق التركي، وبعده كافور الأخشيدي، وذريته، وهو حبشي، وتداول حكم المجتمعات العربية والإسلامية أشخاص من كل الأعراق والأجناس. ونحن اليوم نواجه عالماً جديداً بدأ مع الرئيس الأمريكى ترامب، عالم تعلو فيهسياسات العرق والعنصر، حيث تتمايز الأجناس، وتتجه للانعزال، ويبدأ صعود اليمين الشعبوى فى العديد من الدول الغربية، بل فى تركيا وروسيا كذلك. هذا العصر ستكون أول ضحاياه الدولة العربية الوطنية؛ التى لم تقم أصلاً على فكرة العرق والعنصر، ولم تتحدد حدودها بجنس معين أو جماعة بشرية متمايزة، بل إنها جميعاً تجمع بين حدودها أعراق وأجناس ومذاهب وأديان متعددة، لذلك سيكون من السهل تفجيرها، وتفكيكها، وهنا لا سبيل أمام العرب إلا التحرك سريعا وتجاوز الميراث العثمانى الطائفى البغيض، والانتقال دون تردد إلى مجتمع مابعد الأقليات، حيث دولة المواطنة الكاملة لجميع سكانها بدون تمييز تحت أى حجة أو مبرر، ويتحقق ذلك من خلال الخطوات الآتية: أولا: تعديل جميع القوانين التى يوجد فيها، أو يفهم منها تمييز بين المواطنين طبقا لعرقهم أو دينهم أو مذهبهم، بحيث يكون الجميع سواء فى جميع الحقوق والواجبات، بما فيها حقوق العبادة، وأماكنها وممارستها، والتخلص كليا من ثقافة الأكثرية والأقلية، فالجميع سواء. ثانياً: تجريم التمييز، والتفرقة والكراهية سواء بالفعل أو القول أو الإشارة فى جميع الدول العربية، وقد سبقت دولة الإمارات العربية المتحدة بإصدار هذا القانون وتنفيذه. ثالثاً: تعديل جميع مناهج التعليم لتشتمل فى جميع مجالاتها على ثقافة وتاريخ ورموز جميع المواطنين باختلاف أعراقهم ومناطقهم ولغاتهم وأديانهم ومذاهبهم، وذلك لتكوين جيل يدرك قيمة وإسهام كل بنى وطنه فى صنع تاريخه وحضارته، وتشكيل حاضره ومستقبله. رابعاً: تقديم اللغات غير العربية فى كل دولة توجد بها لغات أخرى فى مناهج التعليم كلغات اختيارية، بما يتيح لأصحاب هذه اللغات تعلمها فى المدارس الحكومية والخاصة، والمحافظة عليها، واستمرارها كرمز من رموز هوية المكونات الاجتماعية لكل دولة على حدة. خامساً: عقد ميثاق عربى تلتزم به جميع الدول العربية باحترام حدود الدول الأخري، وعدم التدخل فى شئونها سواء بالفعل أو القول، أو الدعاية، أو إيواء أصحاب النزعات الانفصالية، وتجريم كل ما يخالف ذلك، بحيث لا يتكرر نموذج قناة الجزيرة التى تحولت إلى معول هدم لتفكيك الدول العربية خدمة لمصالح خارجية. سادسا: إنهاء المشكلات العالقة مثل مشكلة الصحراء المغربية، بما يحفظ وحدة التراب المغربي، وإيجاد حلول إبداعية للحفاظ على إستقرار السودان شماله وجنوبه، سواء باتحاد كونفيدرالى أو بأى صيغة مناسبة. بهذا قد يستطيع العرب الفكاك من تداعيات عصر ترامب.

لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف;

رابط دائم: