منذ الرابع والعشرين من أغسطس الماضي، موعد بدء تركيا عملياتها الحربية التي عنونتها بـ « درع الفرات « في الشمال السوري، حرصت هيئة الأركان العسكرية ــ ولازالت ــ على مكاشفة مواطنيها بحقائق ما يجري على أرض المعركة وكيف يواجه الجيش التركي قوى التطرف والشر بشقيهما التكفيري والإنفصالي.
وفي بيان تلو الأخر، تبثه على موقعها الألكتروني بالشبكة العنكبوتية ، تعلن عن مقتل مسلحين تجاوزوا حتى اللحظة ألف مسلح ، فضلا عن اعتقال أضعاف هذا الرقم ( دون أن تذكر مصيرهم ) ، وتدمير مخابئ وثكنات قدرت بالعشرات، ومصادرة أسلحة وعتاد بالمئات وذخائر وطلقات رصاص بالآلاف .
في المقابل يجد المتابع والمراقب لتطورات المعارك الضارية في تلك البقاع الملتهبة والمتاخمة للحدود مع الأناضول نفسه في حيرة من أمره إذا حاول حصر أعداد من يلقون حتفهم بنيران المقاتلات وقصف المدفعية، وكذا رصد الخسائر التي تظهرها البيانات الرسمية بأنها هائلة ، والأمر لا يبدو في طريقه لنهاية قريبة ، آنيا على الأقل، وليس هناك بالأفق المنظور ــ رغم السعي الجدي لذلك ــ بشائر لوقف النزيف بشريا وماديا.
فالخسائر بالجيش، وهو ثاني أكبر الجيوش بحلف الأطلنطي، باتت لافتة، وهو ما يثير قلق صانع القرار بل وإحباطه، فسقوط جنوده حتى وأن كان متوقعا، لم يكن أبدا بتلك الضخامة النسبية، وحتما سيشكل ضغطا عليه، كونه سيدفع بعوائلهم إلى اليأس والقنوط والتمرد وهي أمور لا يجب أن تطفو على السطح كي لا تعطل مسعاه بإقرار نظامه الرئاسي والذي سيكرس في إبريل القادم وكنوع من التدابير الإحتياطية لا يتم تسليط الضوء عليها بالشكل الكافي إعلاميا لمحاصرة المشاعر كي لا تنقلب عليه. لكن هذا لا يعني أن ما تقوم به القوات المسلحة التركية لا يلقي قبولا لدي قطاعات عريضة في المجتمع، فليست خافية على أهمية بل وحتمية الحفاظ على أمن البلاد القومي، كما أن بقاءها عصية على التجزئة يجب أن يكون في صدارة الأولويات الاستراتيجية للحكومة، وحماية أرواح المواطنين في المناطق المتاخمة للأراضي السورية هو واجب مقدس خاصة مع تزايد اطلاق القذائف الصاروخية بين الحين والآخر مخلفة وراءها ضحايا مدنيين أبرياء إضافة إلى عشرات المصابين.
المعضلة أذن تكمن فيما يتردد عن إخفاقات داخل الأروقة السياسية بما فيها الدوائر الحاكمة ذاتها، وأن ما يحدث كان يمكن تجنبه، وهذا ما تؤكد عليه المعارضة التي سبق وحذرت من الإنزلاق في أتون الحرب الأهلية المستعرة منذ ست سنوات، وطالبت رموزها آنذاك مسئوليهم بنهج سياسة النأي بالنفس، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للأخرين وكان هذا من شأنه حال التزمت به الحكومة التي كان يرأسها اردوغان، تجنب هذا التردي والمأزق الذي تعانى منه البلاد والعباد معا جراء الاستنزاف الحاصل في حرب طال أمدها.
ولا شك أن هناك نجاحات تحققت خصوصا في «جرابلس» خلال بدايات درع الفرات، لكنها سرعان ما عادت للتتواري، وبعد أن كان الساسة يسوقون لمواطنيهم أنهم بصدد الزحف نحو « منبج « و» الرقة « السوريتين لعل تلك الأنباء الحماسية تدعوهم لتقبل تضحيات أبنائهم، تبين بأنها لا تعدو « أحلام يقظة « ، وهكذا اكتفوا بالمضي إلى مدينة « الباب «.
لكن يبدو أن احتواء الأخيرة أصبح محل شك بل قد لا يتمكنون أصلا لا من الباب أو حتى عتبته ، والسبب هو تغير ميزان القوى على الأرض والذي صار يميل لصالح دمشق وحاكمها ، وها هي قواته الحكومية تتقدم بإصرار في الريف الجنوبي للمدينة دون مقاومة كبيرة من تنظيم داعش ، الذي بات قاب قوسين أو أدنى من خسارة أهم وآخر معاقله في حلب ، والتمكن من بسط نفوذها على ثالث قرية فيه الواقعة على نحو 8 كلم من المدينة ، لترتفع الحصيلة إلى «20 قرية في أقل من أسبوعين ، والمؤشرات تنبئ بالمزيد ، والخلاصة هي أن السيطرة التركية على «الباب» تبدو مهمة أصعب بكثير مقارنة بالأسابيع الماضية. والدليل على ذلك هو أن قواها ضعفت وباتت قواتها عالقة لا حول ولا قوة وثمة معلومات تم تسريبها مؤخرا أفادت أن اتفاقا أبرم في العاصمة الكازاخية « استانة « وبرعاية روسية بطبيعة الحال قضي بأن يترك الأتراك مهمة تحرير مدينة الباب للجيش السوري.
للهروب من تلك الوضعية المتدنية التي تأتي على عكس ما خطط له قبل بدء التدخل العسكري المباشر ، بدأ البحث عن طرق للخروج ، في البداية خرج نائب رئيس الوزراء ووزير المالية محمد شيمشيك ، بتصريح غريب ألمح فيه الى أن حكومته يمكنها التعاون مع بشار الأسد حيث قال « لنكن واقعيين فالرئيس السوري باق ولا حل للازمة بدونه وعلينا التعامل مع هذا الأمر « . صحيح أن شميشك تراجع مشددا على أن تصريحاته أخرجت من سياقها إلا أن التكذيب بدا مفهوما المهم أنه لم ينف الحقيقة التي يعلمها القاضي والداني وهي أن تركيا شاءت أم لم تشأ، سوف تتعامل بشكل أو بأخر مع الأسد.
ثم جاء التطور المثير والذي بدا وكأنه طوق نجاة من العثرات المتوالية، وتمثل في دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإقامة مناطق أمنة في سوريا ، والتي استقبلتها النخبة الحاكمة بارتياح خاصة وأنها كانت تلح عليها أبان إدارة الرئيس السابق باراك أوباما دون اي استجابة، غير أن ردة الفعل المتحمسة والسريعة لم تمض طويلا، بعد أن تبين غموضها وضبابيتها بمعني أنها قد تشمل المناطق الكردية وهو ما قاله أحد الكتاب المقربين من الحكم عندما أشار إلى أنه من المحتمل، وهذا أمر وارد بشدة، أن تكون تعليمات ترامب حول «المنطقة الآمنة» عكس مع تراه تركيا.
رابط دائم: