رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

فاروق شوشة.. دندنة أخيرة

تزامن حضور فاروق شوشة الشعرى الأخير مع لحظة مغادرته.. فآخر دواوينه «نخلة الماء» (الدار المصرية اللبنانية ذ 2017) يطل, كطلعة صاحبه الوسيمة

, الآن فى أوجه عشاقه الماشين فى معرض الكتاب. ولقد أسعدنى زمانى أن قرأت من يومين هذا الديوان, الذى يضم قصائد اكتمل فيها تخمر موهبته.

فمثلاً, القصيدة الثالثة فى الديوان, بعنوان «الطير والشعر», هى من أجمل ما كتبه, لا فاروق شوشة وحده, بل الشعراء عموماً. وفاروق فيه ينصح نفسه, وغيره من الشعراء, بخلاصة عشرته الطويلة للشعر, وما تعلمه حول أمهر طريقة لاصطياد طير المعانى والنغم:

انثرِ الحَبَّ/ وانتظرْ مَقدِم الطيرِ/ وحَدِّقْ, لعله فى الأعالي/.. انصرفْ عنه/ لا تعِرهُ التفاتاً/ وتشاغلْ/ كأنما لا تبالي/.. لا تحاولْ منه اقتراباً/ ولا تهمسْ بصوتٍ/ يدعوه للإجفالِ/.. يأنس الطيرُ للسكون/ ويزداد دنواً/ كأنما الركن خالي/.. يهبط الطيرُ /نافضاً قطراتٍ من جناحيهِ/ ويلهو فى نشوةٍ وانفعالِ/.. والكمين الذى نصبتَ يوافيكَ/ بطير القصيدِ/ يزفُّ جناحيهِ/ وأغرى الخيالَ بعد الخيالِ.

إنه ذ بصياغة شعرية بديعة ذ يتحدث هنا عن ذلك التوازن الرهيف بين الانتباه والشرود؛ بين التعمد والتلقائية؛ بين المطاردة واللامبالاة أو ادعاء اللامبالاة؛ بين الوعى واللاوعي, الذى يأتى بأفضل الشعر.. والقصيدة نفسها نموذج راقٍ للجمال الذى تتحدث عنه.

ولكى لا نتوه فى بحور الديوان الشعرية الرحبة, لعله من المناسب أن نتمسك بخيط «الشعر حين يتحدث عن نفسه», كمنظور ينتظم بعض أبهى لآليء فاروق شوشة فى هذا الديوان.

من هذه اللآليء القصيدة التاسعة «القتل الرحيم», وفيها يدرك الشاعر أن ما تبقّى له فى هذه الدنيا قليل, فيقول لنفسه:

ما الذى تخشاهُ؟/ والوقت قصيرٌ, وحميمْ/ (.....) فاضغَط المعنى الذى تحملُ/ فى بعض كُلَيماتٍ/ وحاذِر/ أن يضيع الصوتُ فى الصمت العقيمْ/..

إنه هنا يستفزه الذهاب الوشيك لتكثيف طاقته الشعرية فى احتشاد أخير يبلور الخبرة الهائلة فى كلمات معدودة ثمينة كلؤلؤة..فتأتى قصيدته ثمرة ناضجة لذلك التوفز وهذا الاحتشاد والتكثيف إلى حد التبلور والتلألؤ.

وفى القصيدة الأخيرة «جوزيف حرب», عن الشاعر اللبنانى الكبير الذى رحل عنا فى 2015, يتصاعد نغم الديوان ليصل إلى «كريشندو», أو ذروة التدفق والزخم الموسيقي, وتتضافر خبرات شوشة الجمالية هنا, لإيجاد قصيدة تبدأ بمدخل حداثيّ ينتهى بانفجار شلالٍ كلاسيكيّ. فالمدخل قصصى بعض الشيء, وغربيٌّ, يستدعى ربة الشعر التى تهبط من عليائها لتبكى ولدها الأثير. ويصفه الشاعر فيقول:

.. كان قرصُ الشمس يصحبُهُ/ ويحدوهُ طوال نهارهِ/ ويشَدُّهُ/ ليسير أبعد ما يكون عن الزحامْ/ بيديه مزمارُ الرعاةِ/ وملء عينيهِ افتتانٌ بالجمالِ/ ووجهُهُ نِضْوُ ابتسامْ..

وعن ربة الشعر الهابطة من عليائها نائحة على ابنها يحكى لنا شوشة:

جاءت تسائلُ عنه كل شجية ٍ فى الأيكِ/ حين تباعدت لغة الكلامْ/ فُجِعت بما لقيتهُ من صمت العبيرِ....

وبعد استطراد سرديّ, يحدثُ الانفجار الكلاسيكيّ المفاجئ, والانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب, مخاطبا نفسه:

كفكِفْ دموعك, لن تفيد الأنهُرُ

إن الذى تبكيه لا يتكررُ

إلى آخر المقطع العموديّ الطويل الذى يزيد عن مائة شطرة لا يعترى قارؤها, أو بالأحرى سامعها, ملال. وينتهى بالشاعر الكبير مخاطباً الكبير الآخر الذى يرثيه, وهو لا يدرى أن نهاية مرثيته البديعة تنطبق أيضاً على حال مبدعها الذى سيرحل بعدها بأقل من عامين:

ياشيخ هذا الغيمِ, يا عكّازَهُ

يا أيها القلمُ الذى لا يُقهرُ

علمتنا الغضبَ النبيلَ, فأخصبتْ

أرضٌ بشعركَ دائماً تتفجَّرُ.

وإن كنا وصفنا, فى أول كلامنا, هذا الديوان بأنه «حضور فاروق شوشة الشعرى الأخير», فإنى أعترف بقصور هذا الوصف, لأن حضوره الشعريّ متجدد وباقٍ معنا, طلياً شجياً كصوته. و«نخلة الماء» -آخر ما كتب الراحل الماكث بيننا- هى مسك الختام فى عطائه الشعريّ وأريجِه الخاص كفنان, وكإنسان.

وإذا كنت قد اخترت هنا نغمة «الشعر» وموضوعه فى قصائد الديوان, فإن من أكثر النغمات الأخرى فى هذا الكتاب شجاً وإيلاماً وجمالاً مواجهة الشاعر الشجاعة للموت وجهاً لوجه, بهدوء وفروسية وحكمة, فى مقاطع بلغ فيها قمة حكمته الشعرية.

ولن أزيد, بل أترك القارئ مع صوت فاروق شوشة النبيل الجميل الجليل ليستمع لروائع «نخلة الماء», فى خلوة جمالية تطربه وتشجيه وبين يديه صفحات الديوان.

لمزيد من مقالات بهاء جاهين

رابط دائم: