رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
فى التركي- وأنت تشاهد مسلسلاتهم- سوف تجدهم يرتدون أفخم الثياب، وكأن بطلاتهن عارضات أزياء (حاجة تفرح القلب)، ويرصون فوق موائد طعامهم، أشهى الأطعمة (وهم المعروفون بمطبخهم التركى الشهير)، وشوارعهم دائمًا نظيفة براقة لامعة، ويعرضون أجمل المناظر، حيث يكون جسر البوسفور الأشهر، خلفية للمشهد الدرامي. ساعتها.. وأنت تلتهم أحداث المسلسل التهامًا، ستقول لنفسك: ياااااه.. ألا ما أجمل هذا البلد. والحقيقة أن مخرجيهم حريصون باستمرار، فى مسلسلاتهم التى يرسلونها إلينا، على عرض أحلى المواقع السياحية عندهم، من جبال وتلال وحقول وبحيرات وآثار، فى رسالة لن يخطئها ذهن المشاهد اللبيب تقول لك: «مرحبًا بك بيننا.. تعال عندنا».. وذلك على خلاف مسلسلاتنا نحن، التى تبحث عن كل ما هو طارد لتعرضه ! وليس هذا فحسب، بل إنك ستجدهم – وهم يعرضون الصراع بين أغنيائهم والفقراء- يقدمونه بنعومة وهدوء وشياكة، فإن سألت نفسك: أليس عند هؤلاء القوم جرائم؟ فسوف يجيبك كاتب السيناريو : بلى عندنا.. لكن طرح الجرائم يتم بشكل سريع (ع الطاير)، وكأنهم يصرخون فى وجهك: لا يا حبيبي.. إن معاناتكم أنتم ليست كمعاناتنا نحن. فإن توغلت فى المسلسل، فسوف تكتشف أن ما يمكن أن يقال فى حلقة واحدة يقولونه هُم فى عشر حلقات، لزوم الترويج التجاري، ومع ذلك فأنت لن تترك المسلسل، بل ستتمني- أنت الذى تعانى من فراغ رهيب لا حدود له- لو أن الحلقات العشر صارت مائة. وسيوسوس شيطانك: يا عم المخرج.. لماذا هذا «المّطّ» وذاك التطويل؟ إلا أن صوتًا آخر بداخلك سيجيبك: يا سيدى .. واحنا ورانا إيه؟ ولماذا اللهوجة والصربعة؟ أليست العجلة من الشيطان؟ ثم أليست حياتنا أصلًا مملة.. فما المانع من قليل من الملل؟ لكن شيطانك هذا، ربما غاب عنه، أن هذا التطويل هدفه أن تظل حضرتك مرتبطًا بهم لأطول وقت ممكن.. ومن ثم تصبح كالعجينة اللينة فى أيديهم يشكلونها كيف شاءوا.. أو شاء لهم الهوي! فإن استعمرك الملل، فرغبت فى التجديد، فعندك الهندي. وحينئذٍ ستراهم يرقصون، ويغنون، ويرتدون أزهى الملابس، المرصعة بالورد، والزهور، والفراشات، من كل لون بهيج، وستشاهد فيضًا من حنان الأمهات، ودموع الأبناء، وسهتنة الفتيات، وفحولة الرجال، الذين تكاد شعيرات صدورهم تقفز إليك من الشاشات، حتى إن الواحد منهم تكاد لقبضة يده أن تنشق الجبال. وساعتها قد يسائلك عقلك: معقول؟ أهذه هى الهند؟ فأين الفقراء؟ أليس بالهند – كما عندنا – فقراء يسدون عين الشمس؟ فما بال فقرائهم حلوون وحلوات هكذا؟ لكنها الدراما الذكية، التى تضع فى اعتبارها ضرورة نقل صورة جميلة عن الوطن، حتى لو كانت الدراما عندهم مُبالغًا فيها حبتين. طبعًا.. سيادتك سوف يهتف هاتف فى روحك: معقول.. الهند أحسن من مصر؟ الحقيقة أن بالهند أكبر عدد من الفقراء بالعالم، لكنهم مع ذلك أمة ناهضة، وتسابق الزمن لتصبح واحدة من القوى العظمى خلال سنوات قليلة، وهم هناك يعرفون ذلك.. وبالتالى يسعون- فى دراماهم- إلى بث الأمل دائمًا فى النفوس.. انتظارًا للغد الموعود. لقد نجح صناع الدراما فى الهند، فى جعل الدراما، فرصة للترويح عن النفس (وليس غمّ النِفس!)، والخروج من أحاسيس اليأس البغيضة، كما أنهم استخدموا الدراما( سواء كانت سينما أو فى التليفزيون)، للحفاظ على تقاليدهم الموروثة، وعاداتهم التى لا تكون الهند بدونها هندًا، وهكذا يزرعون عشق الوطن فى لا شعور المشاهد، فلا ينمو وهو كاره بلده، ناقم عليه, راغب فى ركوب أول مركب ليهرب، حتى لو كانت المراكب ستغرق، فيموت. فإن رحنا للمسلسل المصري- ويا عينى ع المصري- فلن نجد الناس إلا فصيلين اثنين، إما شحاذين ضربهم السلك حتى أوجع، أو سكانًا للكومباوندات، يرفلون فى النعيم، وسيارات الـ «بى إم» الفارهة، وتذاكر الحفلات الغنائية (أم 15 ألف جنيه للتذكرة)، وسترى الفقراء، مهمشين، وبلطجية، وتجار مخدرات، وأطفال شوارع، وفتيات ليل، فهل هذه هى حقًا حقيقتنا.. يا خلق الله؟ وسترى كيف أن صُنّاع الدراما عندنا، حريصون كل الحرص على تركيز الكاميرا «زووم» على أكوام القمامة تزغرد فى الأركان المعتمة، وفوقها الذباب المجعلص، يأكل فى أعين صغارنا باستمتاع المستلذ، وكل الأبطال، إمّا مجرمين، أو ضحايا لمجرمين، وإن أراد الأستاذ «السيناريست» التجديد، نراه وقد قدّم لنا نساءً معقّدات مريضات نفسيّا، حبيسات لمستشفيات الأمراض العقلية، ويبحثن عن الانتقام. وهكذا.. تخرج سيادتك من المسلسل، وقد كرهت اليوم الذى وُلدت فيه، وربما تكره من أنجبوك أيضًا، فإن خرجت إلى الشرفة، فسترى عالمًا مختلفًا.. نعم ثمّة مِن المشكلات ما تنأى لحمله الجبال.. لكن هناك أيضًا حياة تدور، وأطفالًا سعداء، ونساءً شريفات عاكفات على التفانى فى تربية الأبناء، ورجالًا يكدحون ويغالبون الأيام سعيًا وراء رزق العيال، فإن أحسوا بالتعب توجهوا إلى أقرب مسجد أو كنيسة، يطلبون العون من الله، مُفرّج الكروب. هى إذن، أنواع من الدراما ثلاثة، تعكس ثلاث فلسفات فى النظر إلى الحياة، فأيها تُفضل أنت؟ تركي.. أم هندي.. أم نمشيها مصري؟ تريدها سوداء معتمة (موجود).. فإن رغبتها بوسفورية ناعمة ( موجود).. أو أحببتها وردية غنائية زهزاهة الألوان ( موجود).. أنت الذى فى يده «الريموت».. فاختر لنفسك ما شئت! لمزيد من مقالات سمير الشحات