رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رؤى الليل اللامعقولة ــ 4

«بمناسبة اختيار صلاح عبد الصبور شخصية العام فى معرض القاهرة الدولى للكتاب القادم»

صلاح عبد الصبور أو عن الأنا التى تتحدث فى هذا المدى اللامتناهى من التحولات التى تقول لنا إنه لا خلاص فى هذا العالم الكابوسى إلا بالموت أو الحب أو التمرد على الظلم أو القهر. أما وقد غابت روح التمرد، فلا تبقى سوى الأصوات الليلية للمدينة التى تتألم كثيرا فى الليل. لكن ليس هو الليل بل أنهار الوحشة والرعب المتمدد فى الكون اللامعقول الذى يدفع الشاعر إلى القول فى أحد مقاطع قصيدته «مذكرات رجل مجهول» من ديوان «تأملات فى زمن جريح»:

إن كنت حكيما نبئنى كيف أجن،/ لأحس بنبض الكون المجنون،/ لا أطلب عندئذ فيه العقل.

والدلالة هنا بالغة الوضوح، فالرؤيا اللامعقولة أو المجنونة هى المرآة الوحيدة القادرة على أن تعكس «نبض الكون المختل» فلا تطلب فيه العقل، ولا حتى تحتكم فى بنائها إلى العقل. هذه النزعة العبثية، ظلت مهيمنة على قصائد صلاح المتأخرة، ولذلك نقابل الذات المهووسة بالتوهمات الليلية الكابوسية التى نراها فى قصيدة «ليلية» من ديوان صلاح عبد الصبور الأخير «الإبحار فى الذاكرة» الذى صدر عام 1977، حيث نقرأ:

حين أهوم منحلا فى قارورة صمتي/ أو مأسورا ما بين شباك الليل السوداء/ منتظرا ما قد يأتي/ تساءلُ نفسي:/ أين هروبى من وطأة وقتي/ هل أستخفى فى ذكرى أيام الفرح الوردية/ وألم من الصمت الأصداء/ومن الدم والماء - الذاكرة - الأجزاء/ أم أستلقى فى حكمة أيام الحزن الزرقاء/ مقهورا أنتظر هدأة موتي/ بعد أن انقطعت عنى الأنباء.

ومن السهل جدا أن نصل بين دوال الليل والحزن واليأس والشعور القاهر بغياب المعنى عن الوجود فى هذه القصيدة. وطبيعى أن نرى المدلولات المصاحبة لدوال الكلمات التى استخدمها؛ فالسطر الأول استعارة مكنية تحدثنا عن تهويم الشاعر فى قارورة صمته متحولا إلى ما يشبه الهواء، أو مأسورا ما بين شباك الليل السوداء التى تطبق عليه فتفقده الحركة فلا يملك سوى انتظار ما قد يأتى أو لا يأتي. ولا يبقى سوى السؤال المتكرر على امتداد الأسطر اللاحقة، وهى أسطر تشير إلى رغبة الهرب من وطأة الوقت والاختباء فى ذكرى أيام الفرح الوردية، لكنها ذكرى سرعان ما تتحول فرحتها إلى سواد. ولا يبقى سوى الاستلقاء فى حكمة أيام الحزن الزرقاء أو السوداء بلا فارق، وهو استلقاء المقهورين المهزومين اليائسين العجزة الذين لا يملكون سوى أن ينتظروا فى يأس مقدم الموت، بعد أن انقطعت عنهم أنباء أى شيء مفرح أو بعد أن اختفت من دنياهم أو سمائهم علامة أى شيء مبهج.

هكذا تمتلئ «الليلية» بالسواد، وتتحول إلى كابوس أو ليل آخر يسقط نفسه على الغد أو على المستقبل كله، فيبدو العالم عالما لا أمل فيه ولا نجاة منه سوى بالموت الذى تحدث عنه بالفعل الصوفى بشر الحافى فى القصيدة القناع المرتبطة به فى الديوان الثالث لصلاح عبد الصبور.

وليس من المبالغة - والأمر كذلك - أن نصف الشاعر صلاح عبد الصبور بأنه شاعر حزين، وأن نصف رؤياه الشعرية بأنها رؤيا قاتمة بالغة الحزن والسواد فى الوقت نفسه، وأن رؤية العالم عنده - فى هذا الشعر- قد تخللتها مشاهد اللامعقول التى ظلت تتصاعد بعد كارثة العام السابع والستين، دافعة شعره إلى أرض الرؤيا الهولية والليل قاتم الظلمة الذى لا خلاص منه إلا بالجنون أو استخدام صور اللامعقول فى التعبير عنه أو تجسيد وطأته على النفس.


لمزيد من مقالات جابر عصفور

رابط دائم: