الفساد الأكبر.. والفساد الأصغر

كل شيء فى هذا البلد محاط بهم، ربما يكون هذا صحيحا نسبيا، إذا تعاملنا مع الفساد بمفهومه الشامل، وتم التركيز على محاربة جميع الوجوه، التى تتعدى حدود الاختلاس والرشاوى بالمفهوم التقليدي.

القضايا التى تم كشفها، تؤكد أن هناك عزيمة لدى القيادة السياسية لمكافحة الفساد، تعزز ثقة الناس فى النظام، وأن جهاز الرقابة الإدارية يقوم بمهام وطنية عظيمة، سوف يتزايد التجاوب معها من قبل المواطنين، كلما تم فتح ملف جديد، وأودع فاسد أو مفسد فى السجن، وهو ما يمنحها قوة دفع لمواصلة عملها الشاق، خاصة أن مافيا الفساد كبيرة ومتجذرة، ولن تستسلم بسهولة، وبالتالى تحتاج المواجهة إلى إرادة رسمية صلبة، ومساندة شعبية واسعة.

المقدمات الراهنة، تقول إن الإرادة والمساندة موجودتان، ما يوفر أجواء مواتية لمواصلة العمل لمكافحة ما يعرف بالفساد الأكبر، الذى تراكم بصورة جعلته عصيا على المواجهة من قبل، ولأن المشروعات التى تقام حاليا، لابد أن تكون خالية من الفساد، أصبحت المعركة حتمية، بل من الضرورى أن تربحها الدولة، وأى تقاعس أو تراجع فى منتصف الطريق، يجعل هذا الغول من الصعوبة مكافحته لاحقا، وتفقد المشروعات التنموية مردودها الإيجابى المنتظر.

وحتى تكتمل الصورة، من المهم أن نمد الخيط على استقامته، ولا نكتفى أو نفرح بما هو معلن من معلومات حول مكافحة للفساد، لأن روافده الصغيرة الكامنة فى غالبية الهيئات والمؤسسات، أشد خطورة، وتؤثر سلبيا على مناحى الحياة النظيفة، وتصيبها بشلل لن يجعل للمشروعات مكاسب حقيقية، وتفقد الثورة الحالية بريقها.

ما يسمى بالفساد الأصغر، يتخطى حدود الرشاوى المادية والمعنوية البسيطة، التى يتم منحها لموظف أو عامل، لتسهيل مهمة ما، أو قضاء مصلحة عادية فى جهة حكومية مترهلة، ويصل إلى درجة أهم، عندما يتم التعامل مع المسألة بنظرة تراعى المصلحة الوطنية، بمفهومها الواسع، فالسياسات الخاطئة التى تكبد المؤسسة الحكومية (أى مؤسسة) خسائر فادحة فساد، وتصرفات المسئول الذى يظلم مرءوسيه تدخل فى باب الفساد، ومن يختار عديمى الكفاءات والمزورين للترقية فساد، ومن يسكت عن شيوع الحق والعدل يندرج تحت لافتة الفساد.

إذا طبقنا هذه القواعد، فسنجد أن الفساد الأصغر مدمر، لأنه منتشر فى أماكن كثيرة، ومقاومته تحتاج إلى إرادة وعزيمة ورؤية إستراتيجية، لن يكون كافيا وجودها فى عقل وقلب السيد رئيس الجمهورية، بل يجب أن تتحول إلى شعار مرحلة، يطبقها المسئول الكبير والصغير بشرف ونزاهة، ولا تتوقف عند حدود «الشو الإعلامى» الذى جعل بعض من يتحدثون عن الفساد أكثر الناس فسادا، سواء بسياساتهم المتهورة، أو تصرفاتهم الخاطئة، أو توجهاتهم الزائفة، أو حيلهم المغرضة.

فى هذا السياق، أحكى لكم قصة واقعية ومعبرة، احتفظ بتفاصيلها، إلى حين تتقدم الجهات المعنية للتحقيق فيها، حيث اتصل بى صديق الأسبوع الماضي، والهلع يقفز من صوته عبر الهاتف، وهو يقول تخيل أن سارقا عددا من البحوث العلمية، تم اختياره مساعدا لأحد الوزراء، وبدأ يسرد قصة صعود الرجل «الحرامى» وإدمانه السرقات العلمية، وأرسل لى الأوراق التى تثبت عليه السرقة، والبحوث التى سرق منها، وقرارات لجان الترقيات التى تؤكد انعدام الضمير.

مع ذلك اختاره السيد الوزير مساعدا مقربا له، لشئون إدارة، من أكثر الإدارات غنى وسخاء فى الوزارة، وأول شيء يحتاجه شاغل هذه الوظيفة أن يكون نزيها وشريفا، وقادرا على مقاومة الإغراءات، لأنها تتلقى منحا ومعونات من جهات دولية مختلفة، لذلك فهذا النوع من البشر يعد أكثر الناس فتكا بالمجتمع، لأن أضرار فساده واسعة النطاق، وتتوالد وتنتشر، والأخطر أن لها رعاة ومقاولين، حريصون على وجودها، لأنها تمثل جزءا أصيلا من استمرارهم أيضا.

القصة التى حكاها الصديق متشعبة ومخيفة، لكن ما يهمنى هنا تأكيد ضرورة التدقيق عند اختيار القيادات، وأعتقد أن لدينا من الأجهزة ما يكفى لمعرفة كل شيء عن الشخص المرشح لأى وظيفة، وقد انتهى زمن حسنى مبارك الذى كان فيه بعض الأشخاص يتفاخرون بأنهم نجحوا فى اختراق بعض الأجهزة، للدرجة التى كانوا يملون عليها ما يريدون توصيله من معلومات، حتى لو كانت غير حقيقية.

ربما يكون هذا الزمن ولي، لكن لا يزال ميراثه مستمرا، وطقوسه معمولا بها، وتداعياته بات لها تأثيرات فى مواقع عدة، بحكم التراكم والتناسل، لأن القضاء عليها، بحاجة إلى تكاتف جميع الجهات لمحاربة الفساد بأنواعه، كبيرا كان أم صغيرا، فإذا كان شغل وظيفة ما يتم عن طريق المحسوبية ودفع الرشاوي، فهل نتوقع من شاغلها أن يكون أمينا؟ وإذا كانت عملية توريث المهن شعارا فى مصر، فهل ننتظر أن يكون هناك مكان للكفاءات؟ وإذا كان لا يزال ابن البواب أو الخفير يتم التعامل معه بنظرة دونية، ويجب ألا يفكر فى مناصب عليا، أو يشغل أماكن معروف تاريخيا أنها بعيدة عن أحلامه، فهل يمكن أن ينصلح حالنا؟

قائمة هذا النوع من الأسئلة الحرجة طويلة، وكل واحد فى مصر يعرف تفاصيلها جيدا، والتفكير فى الإجابة بصورة غير تقليدية، قد تصيب صاحبها بالدوار، وإذا أردنا أن نفك شفرة الفساد وأصحابه، ونحل ألغازه الحالية، يجب أن نضع أجندة إجابات منطقية، تتناسب مع الطموحات والأمنيات المطلوبة لهذا البلد، وأول صفحة فيها تفرض علينا وضع منهج لتغيير ثقافة المجتمع، من القاعدة إلى القمة، وتكريس الأسس العلمية للعدل والمساواة، لتشمل جميع القطاعات، واختيار أدوات صارمة للرقابة والمحاسبة، ومنع التحايل، ووقف العمل بالقوانين المطاطية.

أعلم أن لدينا ترسانة كبيرة من القوانين لمكافحة الفساد، لكن أعلم أيضا أننا نملك من الوسائل ما يمّكن البعض من التحايل والإفلات من حبل المشنقة، لذلك يجب أن يتم مبكرا وضع خطط لمكافحة الفساد الأصغر بالتوازى مع ما يجرى من رغبة ظاهرة للقضاء على الفساد الأكبر.