نجحت وزارة الثقافة المصرية فى تسجيل “عصاية المحبة” أو “غية الرجال”، وهما اسمان يطلقهما الرجال فى صعيد مصر على واحدة من أشهر الفنون الشعبية المصرية “التحطيب” أو الرقص بالعصا، كمنتج فكرى مصرى أصيل يضرب بجذوره فى عمق حضارة قدماء المصريين الذين اتخذوا “التحطيب” لعبة أساسية لديهم، واعتبروها من أهم الفنون القتالية ،ووثقوها فى منمنمات نقوشهم على جدران المعابد القديمة، أبرزها معبد الكرنك فى الأقصر وهى لعبة معروفة فى أنحاء مصر، ومنتشرة بكثرة فى محافظات الصعيد ويولع بها أبناء الجنوب لتستقر أخير على قائمة الحقوق الفكرية المصرية فى المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو).
هذا النجاح هو ثمرة جهد جماعى دؤوب منذ عام 2014 وبمثابة انتصارٍ للثقافة وانتصارٍ للديمقراطية والسياسة المصرية المدركة تمامًا بأن حفظ التراث عمل مُقاوم من الدرجة الأولى ضد مخططات تزييف الوعى وشل الإرادة وإهدار المقدرة ، وهو جهدٌ يتواكب ومستجدات الساحة الثقافية العالمية والإقليمية من مصطلحات ومفاهيم ودعوات للصون، والحفظ والحماية لما أصبح يُعرف فى الأدبيات الدولية بـ”التراث الثقافى غير المادي” الذى بدأنا للتو فى مصر لحمايته عبر (الأرشيف القومى للمأثورات الشعبية) وهو المشروع / الحلم، الذى ساعدنا أن نلتفت إلى أعماق الإنسان فينا رصدًا لتراثنا الثقافى والشعبى غير المادى بحثًا فيه، ودرسًا له ونظرًا فى ثرائه الذى لا يُــحدّ، وغزارته التى لا نكاد نقدر لها بداية ولا مُنتهى، إنه الأمل فى أن ندرك هذا المكنز التراثى القومى قبل أن يلفه النسيان ويضيع منا فلا نهتدى إليه ومن يتابع الأفلام القديمة أو الدراما المصرية .
فلا شك أنه تَعرفَ على هذه اللعبة الشعبية التى يبحث عنها الهواة والمحترفون فى الموالد أو الأفراح، ويذهبون وراءها فى أى مكان لإشباع رغبتهم فى ممارستها، كما شكلت مفردة أساسية فى بعض لوحات الفنانين التشكيليين، وقد نجح فريق مصر أيضًا منذ سنوات فى تسجيل ملف السيرة الهلالية، عام 2008، كمنتج فكرى مصرى بمنظمة اليونسكو.بقيادة العالم الجليل الأستاذ الدكتور أحمد على مرسى مقرر لجنة الفنون الشعبية والتراث الثقافى غير المادى بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة ،ووقف وفريق العمل فى خندق واحد مع وزارة الثقافة وبمساندة الخارجية المصرية وناضلوا معًا بثبات مخلص وبشرف من أجل تحقيق حلمنا البسيط والصعب معًا ولم يكن له أو لهم من وراء هذا الجهد المتواضع مطمعًا ولا مغنمًا سوى أن يكونوا عند حسن ظن وطننا فينا.
وكانت غاية المُنى أن تجسد هذه الجهود الدؤوبة من فريق عمل الملف المصرى وبمساعدة لا محدودة من وزارتى الثقافة والخارجية المصرية التوجهات العلمية لروح هذا المشروع / الحلم من صون وحماية المأثورات الشعبية منهجًا وأداة فى التصور والإجراء ، استنادًا إلى جملة من المرجعيات تُسيج مجالها؛ فالعلمية فى جوهرها انتظام ومجانية للمعيارية واستناد إلى الوصفية وانفتاح على المساءلة وطريق إلى المعرفة وعرة المسالك صعبة الدروب.
خاصة أن هذا النوع من الفنون الشعبية والتراث الثقافى غير المادى شكل فى الوقت ذاته قوة ثقافية مؤثرة،و دافعًا معنويًا ضروريًا،ومصدرًا روحيًا لا ينضب ،ولا يتوقف عطاؤه على مدار التاريخ الإنسانى وعلى ذلك فإن الحفاظ على هذا الفن والتراث هو خير وسيلة للحفاظ على الجانب الثرى من ثقافة الفرد والجماعة أو المجتمع، والعكس أيضًا صحيح ـ فإذا ما غاب الإنسان حامل التراث ـ حامل هذه المأثورات ـ غاب معه إرث الماضي،وضاعت هويته . فالمسألة ثقافيًا واجتماعيًا،جدلية،وتتطلب منا العمل الجاد من أجل الحفاظ على ما يُكسب الإنسان المصرى وجوده وهويته ، وصون هذا الوجود وتلك الهوية، وبمعنى آخر،الحفاظ على بقائه، واستمرار ثقافته من خلال وسائل متنوعة تحفظ له قيمته وكيانه سعيا إلى الإحاطة بأصول الأنا فينا فى زمن الخشية والحيرة والاضطراب إزاء توجس الآخر منا وتخبطنا فى تقديم أنفسنا إليه.
ونحن فى لجنة الفنون الشعبية والتراث الثقافى غير المادى بالمجلس الأعلى للثقافة لسنا وحدنا فى مسألة الالتفات إلى حفظ فنوننا وتراثنا التاريخى أو معالجة المصائر التى ستؤول إليها موروثاتنا الثقافية . فالمجتمعات المعاصرة قطعت أشواطًا كبيرة فى هذه الميادين ، ولا يفوتنا أن نذكر أن الدول الغربية باتت تُدرج موروثاتها الثقافية غير المادية ضمن خططها الاستراتيجية الإنمائية ، فقد عمدت إيطاليا منذ سنوات إلى القيام ببادرة رسمية استباقية لحفظ شتى أصناف الموروث الثقافى المادى وغير المادى (عمارة ، أرشيف ، فنون ، ألعاب ، وغيرها) من أى كوارث طبيعية محتملة ، كما أفرزت وحدة عسكرية متخصصة لحماية هذا التراث ومحاربة أى شكل من أشكال القرصنة والإتجار غير المشروع بمواد الإرث الثقافى بمختلف أصنافها وأشكالها ، فعسى أن نأخذ هذا النموذج العملى بعين الاعتبار وأن يشكل قدوة لحكوماتنا العربية ، ولمنظمات المجتمع المدنى كى تبادر إلى حفظه وصونه وتوظيفه فى مجريات الحياة العامة كى يحيا ويتطور ويندرج ضمن استراتيجيات التنمية والتحديث فى مجتمعاتنا كأحد وسائل الحفاظ على تراثنا العربى والإنسانى من التبديد أو السرقة خاصة بعد أن أخذ بنيامين نتنياهو معه إلى واشنطن عام 2010م خاتمًا عثر عليه الباحثون الإسرائيليون عن الآثار ، وقال إنه لرجل كان يُدعى نتنياهو بن يؤاش (قبل 2800سنة)، أخذه إلى واشنطن؛ ليقول: إن هذا الخاتم صك ملكية يبيح لهم فلسطين ، وكذلك فعلوا حين فتحوا فى نيويورك مطعمًا للفلافل وآخر للشاورما ، والادعاء بأنها أطعمة إسرائيلية ، أو أن الحمص بطحينة من تراثهم ، وكذلك فعلوا بالأثواب الفلسطينية على النسق الساحر .
ونحن لدينا كلُّ الأدلة الثابتة الأثرية والبشرية والتاريخية والثقافية ولا نجاريهم الحجة، إن هذه المسألة تطرح علينا نحن العرب، ضرورة أن نفهم بعمق أثر الفنون والتراث غير المادي، ودوره فى عمق وجداننا ووعينا السياسي، لنكف عن وصف المهتمين بالتراث ودرسه بمرضى الحنين إلى الماضي، فلم يعد يجوز بعد اليوم ، أن يُدرك الآخر خطورة تراثنا الثقافى وطبيعته المقاومة فيحاول تدميره أو استلابه ، وأن نُغفل نحن هذا التراث، ونهمله، لعدم إدراكنا أن حفظ التراث عملُ مقاومٌ من الدرجة الأولى على الإطلاق ، وشرطٌ لما نسميه الديمقراطية ، ولو لم يكن كافيًا.
لمزيد من مقالات د.عمرو عبد العزيز منير; رابط دائم: