رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الوقف والتنمية المستدامة

يحتل الوقف موقعًا فريدًا بين الأنظمة الاجتماعية التي أرشد إليها الإسلام من أجل المحافظة على بناء المجتمع ليظل مستقرًا قويًّا باقيًا ومتقدمًا، وذلك لتنوع صوره وتشعب مجالاته على نحو مميز يدعم ترابط الأواصر وانسجام العلاقات بين فئات المجتمع وأبنائه؛ ابتداء من الأسرة، ومرورا بالعائلة أو أهل المهنة أو أبناء الحي، وانتهاء بالمجتمع أو الوطن أو الأمة. ولا ريب أن هذه المعاني تكشف عن سمات الوقف ومعالمه، التي تؤسس في شخصية المسلم وضرورة تخليه عن الأنانية والمصلحة الشخصية الضيقة والمحدودة حتى يتحلى بعمل الخير واعتبار مصلحة المجتمع والمشاركة الإيجابية في إتاحة المنافع العامة وتوفيرها، والتلبس بسمات الإحسان، امتثالا لقوله تعالى: “وَٱفعَلُواْ ٱلخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ”[الحج: 77]. إن الوقف فيه صلاح عظيم للأمة، ويتأكد ذلك من حكمة الإسلام في تشريع الوقف وتحريض الناس على المشاركة فيه، حيث يقول الله تعالى: “لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ”[آل عمران: 92]. ولقد انطلق المسلمون من هذه الآية فور نزولها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم لسد خَلة المجتمع وحاجته، وتحقيق جود أغنياء هذه الأمة على فقرائها بما تتشوف إليه نفوسهم من نفائس الأموال، حيث أسرع الصحابي الجليل أبو طلحة - وكان أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وهي كانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين”(رواه البخاري ومسلم).

وتتعدد الشواهد الحضارية التي تؤكد مظاهر الوقف وآثاره في التنمية واستقرار وحيوية المجتمع والمحافظة على قيمه وهويته عبر التاريخ، فقد لعب الوقف دورًا فعالا في مسيرة التنمية والتطوير عبر المجالات المختلفة، من معالجة مشكلة الفقر وإنشاء المدارس وتقديم الخدمات التعليمية وبناء المستشفيات وإتاحة الخدمات الصحية وصيانة الترع والأنهار وتوفير مياه الشرب للناس والدواب، وبناء التكايا والملاجئ والاستراحات وتسهيل الطرق والمعابر والجسور وإنارة الشوارع وإنشاء الحمامات وأماكن النظافة والطهارة، وتقديم الخدمات الفندقية للمسافرين وإطعام الطيور والعصافير وإعاشة الحيوانات الأهلية الهرمة والمعتوهة... إلخ. ونلاحظ أن تأمين الوقف لتماسك المجتمع من الداخل بتوفير كثير من احتياجاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية كان يسير مزامنة مع المحافظة على كيانه من الخارج من خلال الاهتمام بالجانب العسكري والأمني بإعداد العدة والسلاح وتأمين الثغور والحدود وتشييد الحصون وتوصيل المرافق لها وتعليم الجنود، وقد بدأه النبي صلى الله عليه وسلم بوقف بساتين مخيريق على الكُراع والسلاح.

كما نجد أنه يحمل في مقاصده مضامين اقتصادية كبرى؛ فهو يجمع بين الادخار والاستثمار في وقتٍ واحدٍ، ويحقق الاستثمار التراكمي المتزايد يومًا بعد يوم للمستقبل سواء أكان نوع الوقف مؤبدًا أم مؤقتًا، وحجز الثروات الإنتاجية بعيدة عن فقد عينها واستهلاك قيمتها وتعطيل الاستغلال أو الانتقاص والتعدي عليها، كل ذلك من أجل إفادة الأجيال القادمة من منافعها وخدماتها.

ومن ذلك فإن الوقف في الإسلام يسمو بالمجتمع وأفراده عن الأنانية والمادية والاحتكار والاستهلاك إلى سمات التضامن ومظاهر التكافل ووسائل الإنتاج، مما يحقق مظاهر التنمية المستدامة ويأخذ بيد الأمة إلى الحضارة والتقدم، تحقيقًا للبناء المتماسك بين أبناء الأمة وفق السمات التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”(رواه البخاري).


لمزيد من مقالات د شوقى علام ;

رابط دائم: