رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

يوسف فاضل.. واللون الأزرق

هو روائى وكاتب مسرحى وسيناريست مغربى، من مواليد الدار البيضاء 1949. قرأت له روايتين غلب عليهما اللون الأزرق، هما آخر ما كتب: «طائر أزرق نادر يحلق معى» (2013)، الحائزة على جائزة المغرب للكتاب، والتى وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية (2014)؛ أما آخر أعماله، الرواية الصادرة هذا العام عن دار الآداب «فرح»، فهى أيضاً زرقاوية الطابع، حيث البحر المحيط، بحر الدار البيضاء، وحيث فستان الفتاة الأزرق: فستان «فرح»، حين رآها للمرة الأولى بطل الرواية وراويها الذى لا اسم له.. وهى الرواية التى اخترت أن أحدثك عنها عزيزى القارئ فى هذه المقالة، على أن تكون رواية «طائر أزرق» خلفية لها كلما تطلب الأمر.

إذا كان الأزرق فى «طائر» هو أزرق السماء، فإن الزرقة فى «فرح» - كما قلنا - بحرية. فالأحداث تتولد عند أعتاب المحيط وتتنامى وتبلغ ذروتها الكارثية. والبطل الراوى، الذى يظل لا اسم له حتى النهاية، يرى «فرح» أول مرة فى فستانها الأزرق فى رحاب المحيط ليدفنها- بعد أن ماتت بين يديه- فى زرقة المحيط فى النهاية ، أو كما يقول فاضل معنوناً الجزء السابع والأخير من الرواية: «قبر فى الماء».. فكأنها من الزرقة وإليها.

عند الخط الفاصل بين اليابس والماء يقوم معمار الرواية وموضوعها معاً: المسجد الجامع العظيم الذى يكتمل بناؤه مع انتهاء الرواية، ويشابه الشكل الروائى من حيث السيمترية، ومن حيث تردد الوحدات الكبرى والصغرى، كأنها القباب والنقوش التفصيلية فى سقف المسجد، فى إحكام مطلق لا هوادة فيه، وغنى لا تعرف مثيله إلا الزخرفة الإسلامية فى أفضل نماذجها. لقد حاكى يوسف خليفة المعمار الإسلامى فى بناء روايته، وهذا أمر يطول شرحه، لذلك أحيل القارئ ببساطة للرواية نفسها كى يرى تفصيل ذلك بنفسه.

إلا أن مادة الرواية ليست تراثية، رغم أن بناء مسجد جامع هو محور الحدث؛ لأن الشخصيات معاصرة، والرؤية مزاج من الواقعية وبعض السيريالية. ورغم الهاجس الاجتماعى والبعد السياسى لبناء جامع عظيم بأموال الناس ودمائهم وعلى حساب بيوتهم التى سحقتها الجرافات فى مقابل بيوت وهمية خربة لا تصلح للسكنى، أقول رغم هذا الهاجس وهذا البعد ، فإن الرواية - كسابقتها - قصة حب.

هى قصة حب فى البداية والنهاية: فتاة تظهر فى كباريه رقيقة كنسمة مشبعة باليود، لصة لا تسرق لُبّ بطل الحكاية راويها فحسب، بل تسرق ما عنده من مال قليل وتختفى، ثم تظهر ثانية بعد مدة طويلة، بعد أن نسيها مفتونها تماما، تظهر فى «كسوة خضراء مزوقة بفراشات من كل الألوان»، لتقترب من عالمه أكثر، وتمكث مدة أطول، وتغوص فى وجدانه أعمق، لكنها تختفى مرة أخرى، تخطفها نداهة الدار البيضاء وحلم الغناء، ونعرف حكايتها: تلك السارقة المسروقة، ليكون اختفاؤها "ليس كاختفائها فى المرة الأولى".. فصاحبها مجنون بها يبحث عنها فى كل مكان - فى تكرار لتيمة البحث اليائس فى رواية «طائر أزرق»، بحث العاشق أو العاشقة الذى يطول - ثم تظهر مرة أخرى «فى فستان مطرز بالأزهار»، الفستان أبيض ذو أزهار بنفسجية (مائلة، مقلوبة!)، وتقترب هذه المرة الثالثة من عالمه أكثر فأكثر: «أشم رائحة القرنفل فى شعرها».. ثم تغنى له، له وحده: ما فى حدا/ لا تندهى ما فى حدا.. ويكون هذا الظهور الثالث مقدمة الكارثة.. لكنه رغم هذا ليس الأخير.

فالواقع القبيح، التى هفهفت فيه «فرح» كنسمة بحرية تمر وتمضى، يلقى على وجهها ماء النار الحارق بيد شخصية كريهة من صنعه، لكن الجميل فى الحكاية أن العاشق الذى لا اسم له يظل عاشقاً لها، بل لا يتم الوصل بينهما إلا بعد احتراقها، لكنها تظل جميلة، ويظل هو العاشق المفتون.

والجميل فى الرواية أن تلك الرومانسية ليست بلهاء ساذجة، بحيث تعمى القارئ - والكاتب - عن قسوة الواقع المحيط، وفى المقابل فإن الوعى بكل ما يحفل به الواقع من عنف وشراسة وخسة لا يطفئ تلك الجذوة المتقدة من الجمال والغنائية فى حياتنا ونفوسنا.. أو على الأقل فى نفس يوسف خليفة وعوالمه، حيث ألوان الربيع تحتفظ بنضارتها فى رحاب الأزرق: أزرق البحر وأزرق السماء.. وأزرق ريش الطائر النادر الذى يحلق معنا: قلب الإنسان.

لمزيد من مقالات بهاء جاهين

رابط دائم: