على الرغم من مرور 43 عاما على رحيل طه حسين فإنه لايزال حيا فى الوجدان، ولايزال حضوره قويا فى أعماق العقل والضمير وإن لم يكن بنفس القوة فى الظاهر وعلى سطح الحياة الثقافية، فقد ذاب فى الكيان المصرى والعربي، ودخل التاريخ كواحد من رواد التقدم والتنوير ودعاة الإصلاح الاجتماعي، وواحد من القادة التاريخيين وصناع العقول. ومازال حلم طه حسين هو حلمنا إلى اليوم «أن تصبح مصر وقد أظلها العلم والمعرفة، وشملت الثقافة أهلها جميعا، وشاعت فيها حياة جديدة، وأصبحت يسكنها قوم سعداء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالسعادة، ويعتز قوم أعزاء ولكنهم لا يؤثرون أنفسهم بالعزة وإنما يفيضون بها على غيرهم منها» ومن يرد المزيد عن دوره ففى كتاب أديبنا الكبير بهاء طاهر «أبناء رفاعة» بعض مايريد، ومن ذلك موقف طه حسين من استغلال الدين فى السياسة وماينتج عن ذلك من إفساد للفكر وللحياة وقد تقدمت أوروبا بعد أن انتهت الدولة الدينية وقامت الدولة الوطنية على أساس حرية الرأى والتجديد فى كل شيء وإعلاء الروح العلمية ورسخت مبادئ الثورة الفرنسية عن الحرية، والعدل، والمساواة، وحقوق الانسان وكرامته. وطه حسين هو الأب الشرعى للتعليم وصاحب الفلسفة المتكاملة للنهوض به فى كتابه المؤسس«مستقبل الثقافة فى مصر». وحياة طه حسين ومعاركه الفكرية والسياسية ضد الاستبداد وضد الجمود والتعصب جديرة بأن تكون ضمن دراسة التلاميذ فى المدارس ليتعلموا منها دروسا كثيرة ربما أهمها أن يتعلموا الصلابة، وقوة الإرادة التى تحقق المستحيل، فهذا الطفل الذى فقد نور عينيه ونشأ فى قرية صغيرة مجهولة فى أعماق الصعيد لأسرة رقيقة الحال كانت تعده للدراسة فى الأزهر بما يكفى ليكون قارئا للقرآن على القبور (كما ذكر هو نفسه فى كتابه الأيام). وهذا الطفل صار علما من أعلام الفكر والثقافة وواحداً من عظماء العالم ومازالت كتبه تنشر ويقرؤها الناس بجميع اللغات.
ويدهشنى طه حسين كلما تذكرت صورته وكفاحه ومعاركه التى كان فيها المقاتل العنيد الذى وقف فى وجه الملك، وحارب ديكتاتورية رئيس الوزراء اسماعيل صدقى ورئيس الوزراء محمد محمود، وعاش أيامه كلها تقريبا فى معارك سياسية وأدبية كان فيها شامخا صلبا، ودهشتى أن أجد رفيقة عمره تكشف فى مذكراتها (معه) عن الجانب الآخر من شخصيته فإذا هو رقيق مرهف الحس، يجلس وحيداً فى بعض الأيام، ويفقد الرغبة فى الكلام، وتلاحظ زوجته دموعه تنساب، فتقف احتراما للحظات الألم والدموع هذه بينما لا يرى الناس منه إلا صلابته وابتسامته ورأسه المرفوع دائما.. تقول زوجته : كان ينعزل فى وحدة قاسية، ويشعر فى أعماق نفسه بأنه وحيد وحدة لا خلاص منها، ومع ذلك كانت لديه قوة لا تقهر، ولم يكن يعطى الانطباع بأنه أعمي.. فقد كان يهاجم الملك ويقول له: ربما تأثر منصبى ولا يهمنى ذلك فلست أنا بالذى يشترى منصبا مقابل عبودية البلاد. ويكتب له فى مناسبة أخرى «كل الصحف تقف ضدي، وإنى أحتمل وحدى كل الصدمات بلا مبالاة، وإننى لن أؤيد الاستبداد على الاطلاق. هذا هو الجانب الحقيقى لطه حسين: مقاتل من أجل الحرية، ومن حسن حظه أن وجد زوجة تسانده، وإبن وابنة تقفان الى جانبه فى لحظات الألم كما حدث عندما قررت السلطات منع طبع كتابه «المعذبون فى الأرض» ونشر الكتاب فى لبنان عام 1949 وتألم أكثر فى عام 1964 عندما كان أحد رؤساء تحرير الجمهورية وجاء رئيس مجلس ادارة فأصدر قرارا بفصله من الجريدة، ولتكرار لحظات الألم وهجوم الحاقدين والأغبياء وكلاب السلطة عليه، كان ابنه (مؤنس) يكتب إليه مواسيا «هناك رجال خلقوا من أجل القيم وآخرون خلقوا من أجل المصالح العابرة، وليس للأوائل أن ينسوا رسالتهم، وللحق فإن طه حسين لم ينس رسالته ولم يقصر فى أدائها أبدا.
أليس فى حياة عملاق الأدب العربى دروس يجب أن تكون حاضرة فى ذهن كل شاب ليتعلم كيف تستطيع الارادة أن تحقق الاحلام التى تبدو مستحيلة.
وهو يعترف لزوجته فيقول: «كنت أقل الجميع اعتبارا فى نظر أسرتي... كنت مهملا.. محتقرا..».. ومع ذلك صار مصدر فخر ليس لاسرته وحدها، ولا لمصر فقط، بل للعالم،.. ومازال فكره وأدبه وحياته مصدر الهام وحافزا للتقدم.. فقد استطاع بالارادة والعمل أن يتحول من عاجز الى معجزة! وبعد غياب 43 عاما مازال حيا (!)
لمزيد من مقالات رجب البنا رابط دائم: