رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

(بمناسبة اختيار صلاح عبد الصبور شخصية العام
فى معرض القاهرة الدولى للكتاب القادم)
مسافر ليل-1

تحدثت فى دراسات سابقة عن ليليات صلاح عبد الصبور، وكيف أنها تغاير تماما الليليات التى تنتشر فى شعر الشعراء الرومانسيين العرب،

خصوصا فى شعر من ورثت ميراثهم «نازك الملائكة» التى أطلقت على أحد دواوينها «عاشقة الليل». وليل صلاح عبد الصبور لا ينطوى على مشاعر الرقة الحالمة أو التوحد الذى ينتظر الإلهام، وإنما يقترن دائما بالوحشة والوحدة والاغتراب، فضلا عن دلالات القمع والرعب، وهى دلالات تردنا إلى رؤى الليل الكابوسية اللامعقولة التى سبق أن تحدثت عنها فى دراستى عن صلاح عبد الصبور. أما ليل القمع والرعب فيتضح على نحو خاص فى مسرحية «مسافر ليل» التى تدخل فى باب الكوميديا السوداء، وهو معنى دال فى ذاته على أن شر المصائب ما يضحك، وأن القمع إذا وصل إلى درجته القصوى لا يملك الإنسان سوى أن يسخر منه، وذلك على نحو تغدو معه السخرية الضاحكة أو السخرية الهازئة وسيلة من وسائل مقاومة القمع بالحيلة. والقمع هنا سياسى بالدرجة الأولى، يواجهه الإنسان العربى المقموع فى مواجهة سلطة لا تعرف الرحمة، وعلى استعداد أن تبطش بحياة هذا الإنسان لأتفه الأسباب أو حتى من أجل أكاذيب هى التى أطلقتها، وذلك فى فعل يرادف القتل المجانى. و«مسافر ليل» مسرحية صغيرة الحجم، إذا قيست بالمسرحيات الأخرى مثل «الأميرة تنتظر» أو «ليلى والمجنون» أو «بعد أن يموت الملك» أو حتى «مأساة الحلاج» التى كتبت قبل هزيمة 1967 الكابوسية. أما «مسافر ليل» فقد كتبت فى أعقاب الهزيمة المأساوية واحتجاجا عليها فى الوقت نفسه. وكان من الطبيعى أن يسمح لها بالعرض فى مناخ الاستبداد الذى خفف من قبضته القمعية على الكُتاب والمثقفين كى يفرغوا بعض غضبهم القاهر، بسبب الهزيمة التى كانت مفاجئة تماما حتى فى أسوأ توقعات المثقفين، ولذلك فالموضوع الرئيسى لمسرحية «مسافر ليل» هو السلطة السياسية.

ويمكن أن نتوسع فى معنى السلطة فى هذا السياق، فنجعل منها سلطة سياسية أو دينية أو اجتماعية...إلخ. ولكن القراءة المدققة للمسرحية، خصوصا فى ضوء الظرف التاريخى الذى كتبت فيه، وعلى هدى من الإشارات التى تنطوى عليها، فالمقصود فيها هو القمع السياسى بالدرجة الأولى، وهو قمع لم يكن الكاتب بقادر على مواجهته إلا بالسخرية من طبيعة الحكم الاستبدادى الذى يتخذ منحنى تهبط فيه الأوامر من الأعلى إلى الأدنى، دون نقاش أو حوار مجتمعى، فالرأى الأول والأخير للحاكم الأوحد الذى هو «عشرى السترة» فى المسرحية، والذى لا يقبل سوى طاعته، فهو الأمان فى زمن لم يعد فيه الأمان كالطمأنينة والسكينة إلا بعض عطايا الحاكم إلى المثقفين أو النخبة التى لم يعد لها من أمر مجتمعها شىء ولم يكن مسموحا لها بالتحذير وإطلاق النفير الذى أطلقه «سعيد» الشاعر فى مسرحية صلاح عبد الصبور الأخيرة «ليلى والمجنون» التى وجه خطابه فيها إلى الناس قائلا: «رعب أفظع من هذا سيجىء».

وفى «مسافر ليل» يتحدث صلاح عبد الصبور عن البواكير الأولى لهذا الرعب فى أواخر الستينيات، فى مناخ النكسة، فيكتب هذا النوع من المسرح الذى يدخل فى باب المسخرة السوداء بلا فارق. والمسرحية تتكون من فصل واحد يضم عدة مشاهد. وعدد أبطالها محدود إلى أبعد حد، لأنها تنبنى على ثنائية ضدية بسيطة وحدّية فى الوقت نفسه بين القامع والمقموع. والقامع فى المسرحية هو «عامل التذاكر» الذى هو يمثل السلطة السياسية، والذى يتكشف قرب النهاية عن رأس السلطة نفسها الذى يبرر كل الكوارث بما لا يمس حضوره القمعى. أما المقموع فهو «راكب القطار» الذى ينطلق فى ظلمة الليل، وهو راكب مجهول السمات، لأن السمات نفسها كالاسم أو التعين بلا معنى أو دلالة، فالدلالة المقصودة هى التجريد المحض الذى يجعل من «عشرى السترة» رمزا لكل المستبدين الجالسين على عرش السلطة، ويجعل من الراكب بدوره رمزا لكل المقموعين الذين يظلهم عرش السلطة بظله الثقيل. وما بين القامع والمقموع يقف «الراوى» كالشاهد أو الكورس فى المسرح اليونانى، دوره يقتصر على التعليق أو التوجه إلى المشاهدين بالرسائل المباشرة للكاتب.

وتبدأ المسرحية بداية تدخلنا فى كوابيس الليل المظلم تدريجيا، فالراكب يجلس على مقعده وحيدا لا يلمح أو لا نلمح أحدا غيره فى مركبة القطار التى يجلس فيها. وبعده يظهر «الراوى» ثم يظهر «عامل التذاكر» فى هيئة الإسكندر الأكبر الذى استدعته تداعيات ذاكرة الراكب فى ظلمة الليل ووحشته. والإسكندر لا يأتى إلا بالرعب والنظرة الدونية القامعة لهذا الراكب المسكين. وتبدأ تحولات عامل التذاكر الذى سرعان ما يصبح ثلاثى السترة ثم عشرى السترة، وفى كل مرة نرى السترة بنفس اللون, كأنه اللون المفضل للقامعين عبر العصور المختلفة، ابتداء من الإسكندر الأكبر، مرورا بتيمورلنك والحجاج الثقفى وهيرمان جورينج وزير الإعلام النازى الذى كان يقول: «عندما أسمع كلمة الثقافة أتحسس مسدسى». إلى أن نصل إلى «عشرى السترة» الذى يرفع شعار: «حقق فى رحمة/ ثم اضرب فى عنف». أما اللون الأصفر الذى يرتديه عامل التذاكر أو رباعى السترة إلى... عشرى السترة، فهو لون تنقسم الآراء بشأنه :

فيراه بعضهم لون الذهب الوهاج/ ويراه بعضهم لون الداء، ولون الوجه المعتل/ لون الموت. وعلى امتداد المسرحية، نرى أوجه التضاد بين القامع والمقموع، وهو التضاد الذى يمتد إلى الاسم نفسه، فالراكب هو عبده بن عبد الله بن عابد، وابنه الأصغر عباد واسم الأسرة عبدون. أما القامع فهو– فى مجلاه الأخير- علوان بن الزهوان ابن السلطان، والتضاد بين كلا الاسمين واضح، فالأول يشير إلى العبودية الممتدة عبر التاريخ، والتى تصل الجد الأكبر بالحفيد الأصغر. أما اسم القامع فيشير إلى العلو الذى يفصل صاحبه عن الناس والذى يصيبه بجنون العظمة أو الزهو، ولا غرو فهو ابن السلطان، وهو ممثل قانون الاستبداد الذى هو فوق رؤوس الناس جميعا. وسرعان ما يجد «الراكب» المسكين نفسه متهما بتهمة لم يرتكبها على سبيل الحقيقة، فالذى ارتكبها حقا هو «عشرى السترة» الذى يدّعى على الراكب بتهمة كاذبة يكون عقابه عليها هو الموت. وبالفعل يغرس «عشرى السترة» خنجره فى صدر الراكب المسكين الذى يسقط على الأرض مضرجا فى دمائه. ويطلب «عشرى السترة» من «الراوى» الذى كان معلقا وشاهدا على الأحداث أن يساعده على حمل جثة «الراكب» كى يلقى بها من عربة القطار فى ظلمة الليل. وهنا ينتقل المشهد الأخير إلى «الراوى» الذى لا يعرف ماذا يفعل، فيتوجه إلى المشاهدين والمتلقين حائرا قائلا:

لا أملك أن أتكلم / وأنا أنصحكم أن تلتزموا مثلى/ بالصمت المحكم.

وتختتم المسرحية– بعد أن يختفى «راكب القطار» - بـ «الراوى»، وهو يتجه إلى الجمهور موجها إليهم الكلمات الأخيرة فى المسرحية كلها، ولكن فى سياق لا ندرى معه من المخَاطَب (بفتح الطاء) تحديدا، هل هو متكلم يتحدث إلى نفسه بصوت مرتفع يسمعه المشاهدون، أم هو المشاهد الذى يتوجه إلى الجمهور المشاهد، كما لو كان يدين صمتهم الذى هو صمته.

ماذا أفعل؟!/ ماذا أفعل؟!/ فى يده خنجر وأنا مثلكم أعزل/ لا أملك إلا تعليقاتى/ ماذا أفعل؟!/ ماذا أفعل؟!.

وتنتهى المسرحية التى تدور أحداثها على خشبة مسرح بلا ستار؛ فالجمهور نفسه مشارك فيها وطرف فى أحداثها بشكل أو بآخر، وهو صورة أخرى من هذا «الراوى»، يتواطأ مع القاتل فى جريمته بالصمت والخوف من «عشرى السترة». فهو علوان بن زهوان ابن السلطان والى القانون، أما «المسافر» فهو رجل من غمار الموالى، فقير الأرومة والمنبت مجرد عبد من سلالة عبيد، لابد أن يخضعوا لـ «عشرى السترة» الذى يبدو كأنه لانهائى الحضور، ينتقل من عصر إلى عصر، بالقدر نفسه الذى ينتقل فيه القامعون من زمن إلى زمن، وبالقدر نفسه الذى يتنزل فيه المقموعون من زمن إلى زمن. وأول ما يمكن ملاحظته على هذه المسرحية، أنها تجريدية بكل معنى الكلمة، لا زمنية بكل الدلالات أيضا، فهى لا تشير إلى زمن بعينه، وإنما تشير إلى لعبة الحكم على إطلاقها وما يقترن بها من قمع، حيث الحاكم هو القامع الأبدى من عصر الإسكندر الأكبر إلى زمن كتابة المسرحية سنة 1968، ولذلك يلح صلاح عبد الصبور فى التذييل الذى كتبه فى نص المسرحية بأنه لم يكن يقدم أشخاصا بقاماتهم المتعينة، وإنما كان يقدم نماذج من البشرية. واتخاذ النموذج البشرى أساس للعمل المسرحى– فيما يقول- يعنى درجة من التجريد، ولذلك لا نرى للراكب ملمحا يميزه عن غيره أو يربطه بزمن دون زمن أو يصله بعصر دون عصر، وإنما نرى تجريدا خالصا يجعله مرتبطا بكل الأزمان التى يتكرر فيها الظلم أو القمع أو الاستبداد، فيتكشف بهذا التجريد لب التناقض بين القامع والمقموع، وهو التناقض نفسه الذى بنى عليه يوسف إدريس جوهر الصراع فى مسرحيته «الفرافير» التى هى بدورها مسرحية تجريدية ترى الظلم كالقمع، والقمع كالاستبداد، كلها مطلقات أزلية الحضور، تكتسب فى كل عصر قناعا خاصا به، وتنطوى على قرائن تشير إليه على سبيل التعين أو التضمن واللزوم، وذلك على حَسَب الحال أو الزمن التاريخى المشار إليه. وهذا هو ما يمكن أن نراه فى مسرحية «الملك هو الملك» لسعد الله ونوس. ولكن مسرحية صلاح عبد الصبور تختلف عن مسرحية سعد الله ونوس اختلافا كبيرا، يتمثل فى درجة التجريد أولا، وفى درجة الحجم ثانيا، ولكنها لا تختلف فى الإشارة إلى زمنها على جهة التضمن واللزوم، فكلتا المسرحيتين تنتمى إلى العالم الكارثى لما بعد العام السابع والستين.

وإذا عدنا إلى «مسافر ليل» من حيث رمزيتها، فإنى لا أرى فيها رمزا بالمعنى الذى تتعدد فيه دلالات الرمز إلى ما لا نهاية، وإنما أرى فيها تمثيلا كنائيا أو أليـجوريا (allegory) لا تشير إلى معانٍ متعددة قابلة للتكاثر،، وإنما إلى معانٍ محدودة بحدود السلطة المستبدة التى تحول بين المثقفين وحلم الديموقراطية، فيتحول نظام الحكم إلى حكم استبدادى قمعى كما يتحول الناس إلى مقموعين أو عبيد فى سلسلة من عبيد سبقتهم وعبيد خلفتهم.

أما «الراوى» فشخصية ملتبسة، يراه صلاح عبد الصبور ممثلا للجمهور أو يراه على وجه التحديد بديلا للـجوقة، إذ إنه يوضح ويعلق ويشير. لكن هذا أهون أدواره فيما يقول صلاح فى التذييل، إذ إن هناك أدوارا أخرى له، فهو يشير إلى الذين لا يستنكفون أن يساعدوا الجلاد على حمل جثة الضحية، الذين يصفهم صلاح بأنهم ظرفاء العصر وأوباشه.

لمزيد من مقالات جابر عصفور

رابط دائم: