رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

قضاؤنا الذى نفخر به

منذ أن اكتمل وعيى بكونى مثقفا مصريا مستنيرا، يؤمن بالدولة المدنية القائمة على الدستور والقانون، وأنا أعرف أن أعظم الدساتير المصرية السابقة على ثورة يوليو 1952 هو دستور 1923 الذى ظل حصنا للاستنارة وحاميا لمدنية الدولة التى تؤكد المساواة بين أبنائها، دون اعتبار لجنسهم أو دياناتهم أو ثرواتهم. وكما كنت أعلم أن دستور 23 هو فى ذاته فعل من أفعال الاستنارة، ووثيقة من أهم وثائقها، ظل إيمانى راسخا بالقضاء المصرى. وتصورى عنه أنه مؤسسة من المؤسسات القائمة بالاستنارة، والمؤكدة لها فى آن. فالاستنارة ليست حركة فكرية فحسب، وإنما هى– فضلا عن ذلك- مؤسسات مادية تجسد الحضور الفكرى لهذه الاستنارة كالجامعات التى هى لازمة من لوازم الدولة الديموقراطية الساعية إلى التقدم، والقضاء الذى هو مؤسسة موازية، تتولى تدريب القضاة وإعدادهم ليكونوا حماة للدستور والقانون، وحراسا للعدل. ومن ثم أساسا من أسس الدولة المدنية الديمقراطية التى يكرر الرئيس عبد الفتاح السيسى إيمانه بها وانحيازه لها فى خطاباته. ومثلى مثل كل المثقفين الذين رفضوا استيلاء الإخوان المسلمين على الحكم فى مصر؛ نتيجة تخبط الأحزاب المدنية وهشاشة تكويناتها، كنت مع القضاة العظام الذين توارثوا تقاليد أجيال جليلة عديدة، ووقفوا فى ناديهم وقفة صارمة، داعمة للدولة المدنية الديمقراطية القائمة على الفصل بين السلطات واستقلال كل سلطة عن غيرها.

ولم يكن نادى القضاة وحده مدافعا صلبا عن الدولة المدنية، رافضا إقامة دولة دينية تنفى معنى المواطنة وتستبدل به التمييز بين أبناء الوطن الواحد، فقد كانت المحكمة الدستورية هى الحارس الأمين على حضور الدولة المدنية التى يحكمها الدستور والقانون، ويحمى مبادئ المواطنة فيها. ولذلك كان لابد أن يصطدم الإخوان المسلمون المتحالفون مع جماعات الإسلام السياسى بالمحكمة الدستورية، ويحاصروها كى يمنعوا القضاة من ممارسة عملهم الذى هو إقرار للعدل بين المواطنين لا الرعايا. ولذلك كنت واحدا من الذين وقفوا ضد حكم الإخوان بوجه عام، ومحاولات اعتداءاتهم المتكررة على الدستور والقانون بوجه خاص. هكذا كتبت دفاعا عن المحكمة الدستورية وتأكيدا لقيمة القضاة الذين شرفت مصر بمواقفهم، ووضعتهم فى أعز مكان من ذاكرتها. وإذا كنت قد أوضحت ذلك فى العديد من مقالاتى فى هذه الجريدة التى أشرف بالكتابة فيها، فقد فعلت الأمر نفسه فى بعض كتبى، مثل: «هوامش على دفتر التنوير»، و»الدولة المدنية والاستنارة»، و»الثقافة والحرية»، و»تحرير العقل». ولم أتوقف عن الإشادة بالقضاء المصرى العظيم الذى أردُ حاضره على ماضيه، فأشعر بالتفاؤل صوب المستقبل، وأتيقن أن فى مؤسسة القضاء قضاة نفخر بهم فخرنا بوطننا وتاريخه العظيم الذى أشرقت منه أنوار الاستنارة، وعمّت كل الأقطار العربية التى لا تزال تعتمد على نزاهة قضاة مصر وحمايتهم للحرية والعدل.

وأحسبنى لم أسعد بشىء فى الفترة التى عملت فيها وزيرا للثقافة سعادتى بالدعوة التى وجهها لى القاضى العظيم (والرئيس السابق) المستشار عدلى منصور لزيارة المحكمة الدستورية والحوار مع أعضائها. وكانت جلسة من جلسات العمر التى لا تنساها ذاكرتى، خصوصا بما دار فيها من نقاش وحوار أفدت منه من ناحية، وتيقنت تيقنا جازما من أنى على صواب فى فخرى بالقضاء المصرى، والإيمان بأنه مؤسسة من مؤسسات الاستنارة والدولة المدنية على السواء. وتذكرت- وأنا خارج من المحكمة الدستورية- موقف محمد نور رئيس نيابة مصر العمومية، عندما اجتمع على محاربة طه حسين وتدميره مشايخ الأزهر وكبيرهم، واتهموه بالإلحاد، مستدلين على ذلك ببعض الجمل التى وردت فى كتابه «عن الشعر الجاهلى» سنة 1926. وانهمرت شكاوى المشايخ على البرلمان، فى زمن الائتلاف الذى كان يضم حزبى الوفد والأحرار الدستوريين. وبعد نقاش عاصف، قرر البرلمان تحويل الشكاوى إلى القضاء. وتولى التحقيق مع طه حسين محمد نور، رئيس نيابة مصر العمومية الذى كان فيه من اسمه نصيب. واستمر التحقيق الذى كشف عن عقلية ثقافية غير عادية لرئيس نيابة مصر، وسعة اطلاعه، إلى أن انتهى التحقيق بالحفظ، وتبرئة طه حسين من التهمة التى لا يزال المتعصبون من مشايخ الأزهر يوجهونها لأعلام الاستنارة التى كان القضاء المصرى، ولا يزال، حاميا لها ولهم.

ودعونى أذكر القراء بالحكم الذى أصدره القضاء منذ سنوات برفض الاتهامات التى وجهت لكتاب سيد القمنى «رب الزمان»، وكنت قد كتبت فى تحية القاضى صاحب هذا الحكم مقالا ضافيا فى جريدة الحياة اللندنية، حين كنت واحدا من كتابها، وهو الأمر نفسه الذى فعلته فى تحية القاضى أحمد سميح الريحانى الذى أصدر حكما ببراءة الفنان عادل إمام من الحكم الابتدائى بحبسه فى القضية التى كانت مرفوعة ضده، وهو الأمر الذى فعلته أيضا مع القاضى الجليل «سيد محمود يوسف» الذى حكم برفض دعاوى مصادرة «ألف ليلة وليلة». ولم أكتف بتحليل حكمه وتقديره، بل أهديت إليه كتابى «دفاعا عن التراث»، وكان ذلك كله وعيا منى بالدور العظيم الذى قام به القضاء المصرى منذ زمن عبد العزيز باشا فهمى (1870-1952) القاضى الوزير الذى استقال من منصبه؛ احتجاجا على محاكمة على عبد الرازق مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» (1925) الذى يؤكد أن الإسلام لم يفرض على المسلمين مذهبا بعينه فى الحكم، وترك لهم حرية اختيار النظام السياسى الذى يرونه أهلا لهم. وقد دفعنى موقف عبد العزيز فهمى العظيم إلى متابعة مواقف القضاة العظام إلى جيل السنهورى الذى عوقب على تمسكه بالديمقراطية، سبيلا للمستقبل، باعتداء الرعاع الذين سلطهم أنصار الديكتاتورية الموالون لعبد الناصر. وكان الاعتداء الغاشم والمهين على السنهورى القاضى الجليل وصمة سوداء فى تاريخ الضباط الأحرار من ناحية، ودليلا على انحياز عبد الناصر إلى الديكتاتورية فى ذلك الوقت من ناحية موازية.

ولم تنقطع مآثر قضاة مصر ومفاخرهم فى الدفاع عن حرية الفكر والديمقراطية، عبر الأجيال التى جاءت بعد السنهورى، فهناك المستشار حافظ سابق الذى كان رئيسا للمحكمة الابتدائية التى حكمت برفض دعوى لجنة الفتوى بالأزهر مصادرة كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ» واتهامه بالهجوم على الدين، بعد صدور الكتاب سنة 1950 (وقد أكد لى ذلك نبيل عبد الفتاح الباحث المرموق فى قضايا الإسلام السياسى). وهناك المستشار محمد عوض المّر (1933-2002) الذى عرفه الجيل السابق بأحكامه الداعمة لحريات الرأى فى المحكمة الدستورية. وكذلك المستشار يحيى الرفاعى (1931-2010) الذى كان يطلق عليه اسم «الضمير الثائر» ومؤسس تيار استقلال القضاء. والمستشار ممتاز نصار المعارض للاستبداد والمدافع الشجاع- فى البرلمان- عن العدالة والحرية التى لا تنفصل عن حضور الدولة المدنية الحديثة. وأخيرا المستشار محمد فتحى نجيب (1938-2003) الذى عرفته عن قرب، قبل أن يرحل عن دنيانا الفانية، فعرفت فيه حب العدل واحترام الرأى المغاير، فضلا عن تقديس الحرية فى كل مجالاتها.

كل هذا التاريخ العظيم وغيره، مرورا بالقضاة من أبناء جيلى من أمثال المستشار الدكتور سرى صيام رئيس محكمة النقض السابق، والمستشار زكريا عبد العزيز رئيس محكمة الاستئناف السابق وغيرهما من الكثرة الكاثرة من أفاضل القضاة الذين يفخر بهم الوطن، كان يدور فى ذاكرتى، مستدعيا كل المواقف العظيمة والمشرفة للقضاء المصرى، حين كنت جالسا فى سيارتى متوجها إلى مبنى النيابة العامة الجديد فى التجمع الخامس فى القاهرة الجديدة، وذلك بعد أن استدعتنى نيابة الاستئناف لأخذ أقوالى فيما قلته فى ندوة «حرية الفكر والإبداع» التى عقدها المجلس الأعلى للثقافة فى شهر مارس الماضى، أو قبله بقليل فلم أعد أذكر على وجه التحديد. وقد كان صديقى الدكتور محمد نور فرحات قد طلب منى أن أدلى بشهادة عن هذا الموضوع فى الندوة مع الصديق أحمد حجازى. وكنت قد استدعيت شاهدا فى قضية أحمد ناجى الخاصة بروايته التى نشرت جريدة «أخبار الأدب» فصلا منها. وقد وافقت على أن أذهب إلى المحكمة لأدلى برأيى بوصفى ناقدا أدبيا مع الصديقين محمد سلماوى وصنع الله إبراهيم. وللأسف ضللت طريقى فى مجمع محاكم الجلاء الذى يشبه المتاهة. وحين وصلت قاعة المحاكمة كان الصديقان صنع الله إبراهيم ومحمد سلماوى قد فرغا من تقديم شهادتيهما. ولم يطلبنى القاضى الجليل للشهادة لأن وكيل النيابة كان قد بدأ مرافعته. وجلست أستمع إلى مرافعة وكيل النيابة التى أصابتنى بالحزن والصدمة الهائلة فى آن، فقد كانت كلها قائمة على أن الفصل المنشور من رواية أحمد ناجى هو مقال خادش للحياء وليس رواية، متجاهلة أن العمل الخيالى لا ينبغى أن ننظر إلى جمله وألفاظه نظرتنا إلى الحقائق التى يضمها مقال فكرى أو اجتماعى، فلا يتصور أن يحاسب العمل الأدبى إلا على هذا الأساس، فما يرد فيه هو على سبيل التخييل وليس التحقيق، أو على سبيل المجاز لا الحقيقة، كما نقول لطلابنا بالجامعة فى دروس البلاغة. وكانت النتيجة أن وكيل النيابة تحول إلى مدعٍ أخلاقى، يرى فيما كتبه ناجى فسوقا وإفسادا للشباب. وأضيف إلى ذلك أنه أرجعنا- غير عامد- إلى دعاوى الحسبة التى جعلتنا فضيحة فى العالم المتحضر كله، كما حدث فى قضية نصر أبو زيد التى انتهت بالتفرقة بينه وزوجه. ولولا عدل قاض محترم (لا أذكر اسمه للأسف) أصدر حكما بإيقاف تنفيذ الحكم، لكانت المأساة قد اكتملت. لكن ترتب على الحكم الجائر هجرة المرحوم نصر أبو زيد الذى فتحت له الجامعات الأوروبية أوسع أبوابها، وفقدته الجامعة المصرية فكانت خسارة فادحة، تركت آثارها فى الخوف الذى أصبح ملازما لكل عقل شاب متفتح يريد الاقتراب من دراسات الفكر الإسلامى، أو نقد الخطاب الدينى أو حتى تجديده. وهو الأمر الذى لم يجرؤ أحد على إعادة فتح أبوابه على مصاريعها إلا الرئيس عبد الفتاح السيسى محققا رغبة كل المستنيرين من المسلمين الذين يعرفون أنه لا سلطة دينية فى الإسلام الذى كفل حرية العقيدة للمسلم وقرنها بحرية الفكر وحق الخطأ فى الاجتهاد على السواء.

ولذلك كله، ووعيا منى بتاريخ القضاء المصرى العظيم، وإيمانا بأنه كان، ولا يزال، مؤسسة من مؤسسات الاستنارة المصرية. كان وقع مرافعة وكيل النيابة على نفسى بالغ القسوة، تخيلت معه أننى أستمع إلى خطاب من داعش السلفية فيما تدعى- باطلا- من أنها الفرقة الناجية الوحيدة. وخرجت من المحكمة حزينا على ميراث الاستنارة المصرى ومندهشا فى الوقت نفسه. ولكن ما خفف عنى الحزن والدهشة ما قام به الدفاع الذى اعتمد فى مرافعته على نقطتين، أولاهما أن موضوع الاتهام هو قصة خيالية، وثانيتهما أن الدستور ينص صراحة على نفى العقوبات الماسة بالحريات فى مادته السابعة والستين. وهو الأمر الذى أدركه القاضى الجليل والمستنير إيهاب الراهب فلم يقبل حيثيات مرافعة وكيل النيابة فحكم بالبراءة فى حيثيات منطقية، مستندا إلى الوضوح الحاسم للمادة الدستورية التى أشرت إليها، والتى تعمل عمل القانون فى تحددها وحسمها أنه لا عقوبات سالبة للحريات فى الفكر والإبداع.

وقد قلت ذلك فى الندوة التى سرعان ما نسيتها إلى أن بلغنى من بعض الأصدقاء أن جريدة البوابة نشرت «مانشيت» كبيرا فى الصفحة الأولى، منطوقه– فيما أذكر- أن «عصفور يتهم النيابة العامة بأنها أصبحت أكثر تشددا من داعش». هكذا؟!. هذا كلام لم أقله. ولم أشر إلى النيابة العامة بكلمة سلبية. وأنّى لى أن أفعل ذلك وأنا لا يفارق ذهنى، طيلة السنوات، حيثيات رفض دعوى محاكمة طه حسين التى كتبها الرجل العظيم محمد نور. ولذلك لا أكف عن الإشارة إليها منذ كتابى «هوامش على دفتر التنوير». قد يكون فى إشارتى إلى داعش ما يوهم الغلو، ولكنى لم أقصد إهانة أحد، وإنما التعبير عن رأيى بوصفى مواطنا مصريا، غيورا على ميراث الاستنارة الذى هو إنجاز ثقافى عظيم يؤكد ريادة وطنه وسبقه لغيره من الأقطار العربية التى نشر فكر الاستنارة فى ربوعها، ولا يزال

وكان من الطبيعى أن أنفى أننى أهنت النيابة، فكل ما قصدت إليه هو التعبير عن رأيى فى مرافعة بعينها من وكيل نيابة بعينه، فى حالة محددة، لا تجاوز خصوص التحديد إلى عموم الإطلاق. ويبدو ذلك واضحا عندما كنت أقارنها– فى ذهنى بالإنجاز العظيم للنيابة العامة خصوصا، والقضاء عموما.

ولا أزال أقول لنفسى مفجوعا: ماذا حدث لمصر؟ ولماذا يتبنى وكيل نيابة شاب لغة اتهام الأعمال الأدبية ومحاكمتها محاكمة أخلاقية دينية وليست مدنية؟. فلم أر فى مرافعته إلا التعسير لا التيسير، بعيدا عن السماحة الإسلامية التى دفعت الإمام مالك إلى أن يقول: «إذا ورد قول من قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان ولم يحمل على الكفر». وأضيف إلى ذلك حق الاجتهاد المقترن بحق الخطأ المنصوص عليه فى حديث نبينا، الحليم، صلى الله عليه وسلم. وهو الحق الذى دفع الإمام الشافعى إلى القول: «رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب». هذه السماحة لم أرها فى مرافعة وكيل النيابة الفاضل الذى لا أعرفه ولا أظنه يعرفنى مع أننى بادلته التحية فى غرفة المداولة، عند استدعاء القاضى لى بعد انتهاء المرافعة.

ولكن وكيل النيابة - وله الحق القانونى- رفض حكم القاضى الذى استند فيه إلى المادة 67 ثابتة الدلالة وحاسمة الإشارة، فاستأنف فى الحكم الذى رفضه، وذهبت القضية إلى محكمة الاستئناف، حيث تناولها قاض آخر، استند إلى مادة قديمة فى قانون العقوبات، فحكم بالحبس لمدة عامين. وكان الحكم صدمة كبيرة، ولا يزال، فى أوساط المثقفين فى العالم كله. وكان من آثاره الندوة التى عقدها المجلس الأعلى للثقافة بطلب من وزير الثقافة للصديق محمد نور فرحات رئيس لجنة القانون فى المجلس الأعلى للثقافة الذى استدعى بدوره جهابذة القانون للحديث فى هذه القضية التى لا تزال تثير الخلاف إلى اليوم.

وقد أوضحت ذلك كله للمحقق الذى أخذ يسألنى عما قلت فى الندوة، وأكدت له أننى لم أقصد إهانة أحد على الإطلاق، لا فردا ولا جماعة، ولم أشر إلى النيابة العامة إطلاقا، كما ادعت صحيفة البوابة، وأذكر أنه بعد أن انتهت جلستى مع المحقق الذى كان شديد التهذيب والحفاوة، اصطحبنى إلى مكتب المحامى العام الذى استقبلنى استقبالا حميما، وقال لى، وأنا أحتسى معه القهوة، إنه يعاتبنى بشدة على دفاعى عن هذه الرواية الخارجة على كل الأخلاق، ومضى فى التدليل على رأيه وعتابه لى. وكان من الطبيعى أن أقول له –فى النهاية- إن دفاعى عن الرواية هو مسألة مبدأ يستند إلى المادة 67 من الدستور الحالى، فأولا هى عمل خيالى وليست كتابا فكريا. وثانيا نص الدستور يمنع الأحكام الماسة بالحريات فى قضايا الفكر والإبداع. واستطردت قائلا: ولماذا عقوبة الحبس المناقضة لحقوق الإنسان فى مثل هذه القضايا؟ أليس الأفضل منها أن نلجأ إلى عقوبة الغرامة المالية، ونتشدد فيها كما نشاء، بما يجعل منها عقوبة رادعة بالفعل؟ أليس هذا أفضل من عقوبة السجن التى تدينها الهيئات الدولية للدفاع عن حرية الفكر والإبداع؟ وأخيرا ما الذى نكسبه حقا من محاكمة تجعل من كتاب لم يقرؤه مائة تقريبا إلى كتاب تتخاطفه آلاف الأيدى من الشباب الذين سوف تثير المحاكمة فضولهم لقراءة الكتاب. وهو ما حدث، ولا يزال يحدث، بالفعل.

والحق أن سماحة خلق المحامى العام تركت فى نفسى أعمق الأثر، وزادتنى تأكدا من تواصل التقاليد الجليلة للقضاء المصرى العظيم فى الأجيال المتتابعة من رجاله. وأخيرا، اقترح علىّ سيادته أن أذهب إلى النائب العام، وأقابله وأوضح له الأمر، فيما يتصل بتأكيد احترامى للقضاء، واستحالة التفكير فى إهانته. وتركت المستشار الفاضل، وأنا شاكر حسن استقباله. وذهبت فورا إلى مكتب النائب العام الذى تعددت زيارتى له أيام المستشار هشام بركات، رحمة الله عليه، فقد كان مثقفا مستنيرا وصديقا كريما تحاورنا كثيرا حول مفاخر القضاء المصرى ودوره العظيم فى الدفاع عن الاستنارة وحماية الدولة المدنية. ولسوء الحظ لم أجد النائب العام فى مكتبه، فقد كان فى اجتماع مجلس القضاء الأعلى الذى كان منعقدا فى ذلك اليوم. ولم يكن أمامى سوى أن أقابل مدير مكتبه وأشرح له الموقف، طالبا توصيل كلامى إلى سيادة النائب العام، وتركت له اسمى وعنوانى وتليفونى، إذا أراد أن يستوضح منى شيئا يستحق التوضيح. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد قررت بينى ونفسى أن أكتب مقالا فى تحية القضاء المصرى الذى لا يزال مؤسسة من مؤسسات الاستنارة المصرية، يفخر بتاريخها العظيم كل مثقف مستنير. ولكن تفاقم مرض زوجتى حال بينى وتحقيق ذلك فى وقته. ولذلك تأخرت فى كتابة ما انتويت فعله. ولكنى فوجئت فى هذه الأيام بأخبار متناثرة على مواقع التواصل الاجتماعى بأن النيابة أحالت تحقيقها إلى محكمة الجنايات بتهمة إهانة القضاء، فأصابتنى الدهشة: أأُتهم بإهانة القضاء، وأنا من أكثر المثقفين المصريين تقديرا ومعرفة بتاريخ القضاء المصرى؟! لكنى لم أمض فى الدهشة كثيرا، إذ لم يصلنى استدعاء رسمى من المحكمة أو حتى إعلان بالحضور. إذن، لم يبق سوى الانتظار، ليقضى الله أمرا كان مفعولا، فكلنا نحترم الدستور والقانون، وكلنا نحترم القضاء الذى هو فخرنا، ولا عقوبة إلا بقصد. وأنا حزنت ودهشت من مرافعة وكيل نيابة واحد وعبرت عن رأيى فى مرافعة له، وليس مرافعات آلاف وكلاء النيابة ورؤسائها الذين أكن لهم كل التقدير والاحترام، وأراهم حصنا للاستنارة. وكل ما فعلت أننى عبرت عن صدمتى فى حالة فردية، أدرك قبل غيرى أنها الاستثناء وليست القاعدة، مستندا إلى الدستور الذى يستبعد العقوبات السالبة للحريات فى قضايا الفكر والإبداع. وكلنا نشرف بالوقوف أمام القضاء المصرى الذى لا يزال أعلام قضاته حراسا للتنوير وحماة للدولة المدنية الحديثة، فى وطن يسعى إلى تحقيق أحلامه الوطنية التى تشمل حقوق المواطنة التى هى حقوق الإنسان المنصوص عليها فى الدستور الذى هو الأساس المنطقى الوحيد للقانون. فهل ما قلته فى الندوة كان إهانة للقضاء الذى تفخر مصر برجاله العظام، جيلا وراء جيل، إلى اليوم، والغد، إن شاء الله. سؤال أطرحه على نفسى وعلى القراء، وعلى مواقع التواصل الاجتماعى التى تلوك الحديث عن محاكمة قادمة.

لمزيد من مقالات جابر عصفور;

رابط دائم: