رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

قنبلة وسط البلد

فى أغلب بلدان العالم المتحضر يحظى وسط العاصمة بخصوصية فريدة تجعله محل تركيز وعناية فائقة لا تتوقف، للمحافظة على مايزخر به من كنوز وتراث معمارى وفنى يمثل جزءا اصيلا لا غنى عنه فى الذاكرة الوطنية، وهو ما يحوله إلى واحة يستجم على ضفافها كل ساع وباحث عن الجمال والراحة النفسية. تلك هى القاعدة الثابتة لكنها فى حالتنا معكوسة، فوسط البلد عندنا المرادف الأمثل للعشوائية والفوضى وامتهان التراث الحضاري، الذى تعب وجد السابقون فى بنائه، وتركوه لنا وديعة غالية معتقدين أننا سنصونه بأفئدتنا وسواعدنا، وسنوفيه حقه الكامل من الرعاية.

ادرك أن انطباعك الأولى والسريع سيكون التساؤل: وما جديدك فى هذا الأمر؟ فقد أرهقتنا كثرة الحديث عن هذا الموضوع بلا عائد، وعدم حدوث تجاوب يُعتد به من قبل الحكومة والمواطنين يعيد لوسط البلد ما فقده من بهاء ورونق كنا نتشدق بهما فى أزمنة ماضية، لكن يسعدنى إبلاغك بأنه لدى بالفعل جديد، هو أن وسط القاهرة يجلس على قنبلة منزوعة الفتيل قد تنفجر فى وجوهنا جميعا فى أى لحظة ما لم نتداركها على عجل.

غرضى ليس التخويف أو إثارة الرعب العشوائى فى النفوس بقدر ما يرمى للتحذير ودق ناقوس الخطر قبل وقوع الواقعة، وحينها لن يفيد الندم ولا قول ليتنا كنا فعلنا كيت وكيت، القنبلة التى أحذركم منها احدى اماراتها سلسلة الحرائق التى تتعرض لها أجزاء متفرقة منه، أحدثها كان فى الفجالة مساء الخميس الماضي، والذى استدعى السيطرة عليه الاستعانة بـ 22 سيارة اطفاء، و35 طنا من المياه.

تفاصيل الحريق وما سببه من خسائر وفواجع أضحت معلومة، ولا داعى لاعادتها، غير أن ما استرعى انتباهى فيه هو ذلك الاستهتار الزائد على الحد بحياة البشر والحجر عبر تحويل الشقق السكنية إلى مخازن لمواد قابلة للاشتعال بدون أن يحرك ذلك فينا شعرة واحدة، مع أن منطقة العتبة شهدت فى مايو المنصرم أكثر من حريق بسبب الورش ومخازن الملابس والبلاستيك الكائنة وسط العقارات، والغياب التام لاشتراطات الأمن الصناعى فيها، وأنه لابد من تعديل القانون الذى يعاقب من يحول الشقة السكنية لنشاط تجارى بغرامة قدرها ألف جنيه فقط لا غير، وبعد الألف جنيه يمكنك وضع ما تشاء من علامات التعجب والاندهاش والامتعاض، آنذاك وعدنا المسئولون باتخاذ اجراءات فورية رادعة وشاملة وتفعيل دور الاحياء التى تغط فى سبات عميق.

وللتذكير وحسب هل عرفنا حتى الآن الجانى فى حرائق العتبة وما سبقها؟ كلا فالفاعل مجهول من الناحية القانونية، مع أن الجناه يمرحون بيننا، وطويت صفحة هذه الحوادث بدون توقيع عقاب، وبدون محاسبة المسئولين فى الاحياء الذين تقاعسوا عن القيام بواجباتهم وفقا للقانون الذى يحظر إقامة منشآت صناعية بالاحياء السكنية، وإن ظننا أن حريق الفجالة سيكون الأخير فنحن واهمون، لأنه لدى اشتعال النيران فى مخزن الأدوات المكتبية كان سكان الفجالة يبثون شكاواهم لوسائل الإعلام المرئية ويتوقعون مزيدا من المصائب بسبب امتلاء حيهم بهذه المخازن.

ولو أجرينا مسحا شاملا لوسط البلد سندرك قدر كارثتنا فيها، فكل المبانى التاريخية والاثرية شغلتها المحلات التجارية، والورش، والمخازن، واصحابها غير مكترثين باجراءات ومتطلبات الأمان الصناعى توفيرا للنفقات، ويسهم الفساد المستشرى فى المحليات فى تسهيل تهربهم من الاستحقاقات الواجبة عليهم، والمحصلة تكون أن البقية المتبقية من المبانى المشيدة على الطرازين الفرنسى والايطالى مهددة بالخراب والدمار طوال الوقت، إذا القى عقب سيجارة هنا أو هناك، انبه أيضا إلى المولات المنتشرة فى وسط البلد ويقصدها الآلاف يوميا وما إذا كانت مستوفية لشروط الأمن الصناعي، وأولها الاطفاء الآلي، ومخارج الطوارئ، وعمل استعدادات وتدريبات سنوية على مواجهة الحريق اسوة بما تفعله الدول المتقدمة التى لا تترك الأمور للمصادفة ، وتفعل ما تقدر عليه لحماية أرواح مواطنيها وممتلكاتهم. ولا قدر الله إن شب حريق فاقرأ الفاتحة على المكان وعلى ما يحيط به من كنوز معمارية لن نعوضها.

إننا إزاء استهانة غير محدودة وغير مقبولة بقيمة البشر والتاريخ، وكذلك إزاء غياب تام لأدوار جهات من صميم عملها المحافظة على تراثنا الحضاري، مثل هيئة التنسيق الحضاري، ولا يتذرع احد بأن تلك مسئولية المحافظة، وترد المحافظة بأن وزارة الثقافة هى المنوط بها القيام بهذا الدور وهلم جرا، وما يزيد الحزن والاسى أنه كلما قطعنا شوطا فى إعادة الوجه الحضارى والانسانى لوسط البلد بازالة التعديات المتواصلة على شوارعه، ونقل الباعة الجائلين لأماكن أخرى لا تكتمل فرحتنا، لأنه سرعان ما يعودون كالجراد ليغزوا أرصفتها ويشوهوا المكان بمخلفاتهم ومعاركهم على الوجود بحيز معين.

ما المخرج من هذا البؤس إذن ؟

بما أننا أصبحنا أمام أمر واقع لا فكاك منه، وتراكمات من التشوهات والمخالفات والتعديات، فلا سبيل أمامنا سوى إجبار الجميع على الالتزام بالقانون وبشروط الأمن الصناعي، والتهديد باغلاق اى مكان، أو مخزن لا يلتزم بها، وصدور أحكام مشددة على المخالفين الذين يستسهلون دفع الغرامات المالية الهزيلة، وأن نحارب فساد الأحياء بقوة ودون تأخير، فالذين سيأتون بعدنا لن يرحمونا ولن يسامحونا على تفريطنا فى أجمل وأبهى ما خلفه لنا الاجداد من بطولات وانجازات، فلا تضيعوا جهد الأقدمين، وخلصونا من حالة التعايش الغريبة والشاذة مع أخطائنا وسلبياتنا التى يجرى التعامل معها بأريحية شديدة.

[email protected]
لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي

رابط دائم: