رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
عندما يتذكر المرء كيف كانت حفلات سيدة الغناء العربى أم كلثوم وكيف كان حضورها يستمعون فى نشوة صامتة وكأنهم فى طقس تعبدى مقدس مشحون بالإيمان. وعندما تهامس أذنيه موسيقى جندول عبد الوهاب وكليوباتره فى شبه صخب ملحمى مستوعب لأفق تاريخى يشعر به الفنان وينفعل به الملتقي. ثم وهو يصغى إلى أنات المبدع فريد الأطرش صاحب أشجى ألحان العربية وأطرب أصواتها إذ كانت دقات عوده تكاد تخلع القلوب من مواضعها إلى حيث تتحرك الأوتار. وبالذات عندما تخايله صورة الفنان عبد الحليم حافظ فى حالته «الصوفية» فاقدا الشعور بالوجود المادى من حوله، مندمجا إلى حد التماهى فى الكلمة التى ينطقها، ومنتشيا إلى درجة التوهج باللحن الذى يصاحبه، فيأتى صوته بالصدق اللانهائي. وآخراً عندما تلتاع روحه مع فيروز تلك الروح النبيلة وهى تناجى مدينتنا السليبة زهرة مدائن التاريخ والأديان رمزا لشرف الأمة الضائع فى همس صاخب كأنه صوت الضمير الذى لا يعلوه صوت آخر.. عندما يتذكر المرء ويخايل هؤلاء بالذات وكثيرين يشبهونهم، يدرك كيف كانوا يفهمون الغناء كعمل مقدس، وكما أن لكل مقدس طقوسه التعبدية التى تصل بمؤمنيه إلى حالة النشوة الروحية، فقد كان لكل من هؤلاء طقوسه التعبيريه، بدءا من اختيار الكلمة بعد تدقيق، واللحن عبر إحساس، حتى الأداء بكل صدق أمام جمهور متذوق ينطبع بدرجة من الاحترام الصادق وصولا إلى النشوة الفنية الكاملة. هذا الطقس الفنى المتسامى هو ربيب التصور الحداثى لدور الفنان باعتباره ذاتاً مبدعة لقيم وجدانية وإنسانية تجعل منه مشرعا جماليا وأخلاقيا، وهو نفسه الطقس الذى جسدته الحداثة المصرية بروحها المتوثبة، وطلتها البهية، التى جعلت منها جسرا مرت عليه ثقافات العالم بكل تجلياتها الفلسفية والأدبية والفنية إلى دنيا العرب القاحلة، فنهل أبناء العروبة علما من جامعاتها، وأدبا من صحفها ومجلاتها، وفنا من معارضها وسينماتها ومسارحها، وبالذات من أوبراها، الأعرق فى الشرق الحضارى كله، منذ افتتح الخديو إسماعيل دارها القديمة على شرف الإمبراطورة الفرنسية أوجينى منذ القرن ونصف القرن تقريبا قبل أن تحترق بنار الإهمال والفساد مطلع السبعينيات، وحتى افتتح الرئيس الأسبق حسنى مبارك دارها الحالية قبل ثلاثة عقود. إنه الطقس الذى جسده مهرجان الموسيقى العربية فى عيده الفضى (1992 ـ 2016) واستمر لأسبوعين على مسارح دار الأوبرا بالقاهرة والإسكندرية ودمنهور، حيث قدمت 37 حفلا غنائيا، أحياها 82 مطربا من ثمانى دول عربية، من بينهم 25 موهبة شابة، تحت رعاية د. حلمى النمنم وزير الثقافة المستنير، الذى ألقى كلمة بليغة ناهض ضد الإرهاب الدينى والقبح الفني، وبإشراف د. إيناس عبد الدايم ، عازفة الفلوت الكبيرة، الابنة البارة للفن المصري، التى تقود الدار بروح فنانة عاشقة لها وليس فقط رئيسة مسئولة عنها. ورغم أن حفل الافتتاح الذى شهده المسرح الكبير جاء ومصر تعانى الكثير من الأزمات الاقتصادية والمآزق السياسية، فقد كشف الحفل عن مصر أخري، أكثر قوة وبهاء وجاذبية، لا تزال قادرة على جمع ألوان الطيف العربى حول فنها، الذى أسهم مبدعون عرب كثر فى تطوره بقدر ما أسهمت هى فى بزوغ نجمهم، قبل أن تعود لتحتفى بهم وبغيرهم ممن عاشوا وأبدعوا فى أوطانهم، وغنى بعضهم لمصر أحيانا وهى تخوض معارك الأمة كلها دفاعا عن حركات تحررهم زمن ناصر، وضد العدوان الإسرائيلى زمن السادات، وضد غدر الشقيق زمن مبارك، عندما نعى فنانو العرب من على أرضها «الحلم العربي» الذى سقط بين الأحلام الكبرى وأوهام القوة لدى الحمقي. بدأ الحفل بتكريم كثير من المبدعين المعاصرين، قبل أن يُعرض فيلم وثائقى للرموز الذين أسهموا فى دورات المهرجان السابقة، فى صور سريعة متتابعة، كشفت عن وفاء كبير للراحلين، وعلى رأسهم رتيبة الحفنى وناصر الأنصاري، وعن طوفان من المبدعين (شعراء وملحنين ومطربين) يعز حضورهم فى بلد واحد وزمن واحد، فلا تملك سوى أن تشعر بالفخر لأن هؤلاء جميعا مصريون، أو عرب متمصرون، أتوا إلى قلب الأمة التى طالما مثلت بوتقة صهر ثقافية. كما لا تملك إلا أن تتساءل: لماذا مصر نقطة جذب فنية، تكاد تلتقط المبدعين العرب من كل صوب، ولكنها قوة طرد علمية واقتصادية، تدفع بأبنائها إلى غير مكان فى أرض العرب، فلا يجد علماؤها من يرعى عطاءهم، ولا يجد شبابها فرصة عمل على أرضها اللهم سوى المحظوظين من علية قومها؟. فى الجزء الثانى من الحفل استمعنا إلى بعض رموز الغناء المصرى بمصاحبة أوركسترا أوبرا القاهرة بقيادة المايسترو ناير ناجي، فى حضرة الفنان عمر خيرت، الذى يكاد يكون نموذجا لفنان الحداثة، بإطلالته الشامخة، وحسه الراقي، وقدرته على إذابة جمهوره فى طقسه الفني، بعذوبة ألحانه. غنى الفنان الكبير جدا، دون ادعاء أو صخب، على الحجار، فانتزع الآهات من الحضور عندما غنى (بتونس بيك وكأنك من دمي، على راحتى معاك وكأنك أمي). ثم غنى الفنان مدحت صالح ليطرب الجميع ويمتعهم بخفة روحه، تلته الفنانة ريهام عبد الحكيم التى شدا الجميع معها مستبشرا (فيها حاجة حلوة). وقبلهما شدت الفنانة الشابة أُمينة خيرت بأغنية (المصري). والحقيقة أننى مدين لها باعتذار عن ظنى السيئ بها، فمن مجلة المهرجان علمت بأنها ابنة شقيق الفنان عمر خيرت، وأنها تغنى منفردة للمرة الأولى تحت قيادته، فقلت لنفسي، ها هى أمراض المجتمع، حيث تورث المهن خصوصا فى القضاء والشرطة والصحافة، قد فرضت نفسها على الفن. ولكنها ما إن شدت حتى كشفت عن فنانة حقيقة، رائعة الحضور، عذبة الصوت، أضافت إلى الحفل، وأثبتت أنها من طينة عمها، ومن عنقود الإبداع الممتد فى عائلتها، فاقبلى اعتذارى أيتها الفنانة الواعدة. [email protected]لمزيد من مقالات صلاح سالم;