رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

العدالة الثقافية وتطبيق الدستور

لا يخالجنى شك فى أن مفهوم «العدالة الثقافية» الذى طرحه أخيرا وزير الثقافة حلمى النمنم، إنما يحمل فى تطبيقه الصحيح، مفتاح المستقبل المشرق الذى نحلم به والقائم على الفكر المدنى المستنير والمتحرر من الجهل والتخلف الذى يتهدد مجتمعاتنا العربية بأفكاره الظلامية البغيضة.

ففى حديث مهم لوزير الثقافة مع «الأهرام» أجراه ياسر بهيج، قال الوزير: «عندما جئت وزيرا قلت فى أول يوم إن لى هدفا محددا هو الوصول بالثقافة الى كل ربوع البلاد لتحقيق العدالة الثقافية»، وحول ما تم تحقيقه فى هذا الصدد قال النمنم إن الوزارة خرجت بنشاطها الثقافى من العاصمة الى المحافظات فأقامت عدة تظاهرات ثقافية كانت بمنزلة «جسور حملنا عليها الثقافة لكل فئات المجتمع فى كل مكان»، معددا المهرجانات التى أقيمت فى سانت كاترين بسيناء، وبالوادى الجديد، وبمرسى مطروح، وبالنوبة، التى قال أهلها إن تلك كانت أول مرة منذ 45 عاما يَرَوْن فيها وزيرا للثقافة.

لكن فى الوقت الذى يسعى فيه حلمى النمنم لكسر احتكار العاصمة للنشاط الثقافى تحقيقا لمبدأ العدالة الثقافية، فإن المتابعة الإعلامية لتلك الأنشطة الإقليمية تبدو قاصرة بشكل كبير لأنها ما زالت أسيرة لما يحدث فى القاهرة، وبين الحين والآخر فى الإسكندرية، لذلك لم يتنبه أحد لهذا المفهوم المهم الذى تحدث عنه الوزير، إلا الباحث الكبير الدكتور أسامة الغزالى حرب الذى أثنى على الفكرة منذ أيام فى عموده الصحفى بجريدة «المصرى اليوم».

والحقيقة أن الثقافة - سواء اعترفنا بذلك أو تجاهلناه - هى السلاح الأول فى محاربة التخلف الفكرى الذى تصاعد مع تراجع النشاط الثقافى فى الأقاليم. وقد حاول الدكتور أسامة الغزالى حرب تفسير مفهوم العدالة الثقافية بمعانيه المختلفة فقال إنه يعنى على أحد المستويات العدالة بين الأشكال المختلفة للأعمال الثقافية، أى المسرحيات والأفلام السينمائية والكتب والفنون التشكيلية، قاصدا أنه يجب ألا يطغى اهتمام الوزارة بأحد هذه الأشكال على حساب الاهتمام بالأشكال الأخري، كأن تتراجع الدولة - كما حدث بالفعل - عن الاهتمام بالسينما وبالمسرح وتهتم بالفنون الأخري، تاركة كلا منهما للقطاع الخاص وحده يملى شروطه التجارية فى السوق السينمائية والمسرحية حتى أصبح الآن يحتكر هذه السوق.

وعلى المستوى الثانى فسر الدكتور أسامة مفهوم العدالة الثقافية على انه يتعلق بالأطر التى يقدم من خلالها الانتاج الثقافى مثل دور السينما وقصور الثقافة والمنتديات الخاصة والعامة والمهرجانات الثقافية، بمعنى أن تكون هناك عدالة فى رعاية وتشجيع جميع هذه الأطر ضمانا لتكامل النشاط الثقافى فى جميع ساحات العمل الثقافي، وأما المستوى الثالث فهو العدالة الثقافية فى بعدها الاقليمي، وهى التى تحدث عنها الوزير فى حديثه فى «الأهرام» حين ذكر الأنشطة التى أقامتها الوزارة فى الأقاليم البعيدة عن العاصمة.

غير أن هناك جانبا آخر للقضية لا يمكن إغفاله لأنه فى رأيى الأعظم أهمية والأكثر إلحاحا، وهو العدالة الاجتماعية بمفهومها المادي، وأقصد بذلك جانبها المتعلق بالقدرة المادية للمواطن والتى كثيرا ما تكون هى العائق الأول والمنيع أمام وصول المنتج الثقافى إلى جميع المواطنين، سواء كان هذا العائق هو سعر الكتاب أو تذكرة الأوبرا أو ثمن اللوحة التشكيلية.

وقد تنبه دستورنا إلى غياب العدالة الثقافية بهذا المعنى وذلك فى حديثه لأول مرة فى تاريخ الدساتير المصرية عن الحق فى الثقافة باعتباره أحد الحقوق الأساسية للمواطن المصرى صانع الحضارة والثقافة على امتداد التاريخ، وقد نص الدستور على أن الدولة من واجبها أن تكفل هذا الحق.

ولقد شرفت أن تقدمت للجنة الخمسين باقتراح أن يضم الدستور بابا جديدا حول المقومات الثقافية للمجتمع أسوة بالمقومات السياسية والاقتصادية التى وردت فى دساتيرنا السابقة، وسعدت أن قوبل هذا الاقتراح بالاستحسان من اللجنة التى ناقشته باستفاضة وتبنته بإجماع الآراء، مما جعل الدستور يتضمن لأول مرة عدة مواد تنص على عدد من المبادئ الثقافية المهمة التى أصبحت الآن ملزمة للدولة، والتى يأتى من بينها ضمان وصول المنتج الثقافى الى جميع المواطنين دون تمييز من أى نوع، فقد نصت المادة (48) من الدستور على أن «الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة وتلتزم بدعمه، وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز بسبب القدرة المالية أو الموقع الجغرافى أو غير ذلك، وتولى اهتماما خاصا بالمناطق النائية والفئات الأكثر احتياجا».

إن تلك المادة تحسم بشكل نهائى ذلك الجدل الذى لا يمل البعض من إثارته حول ما إذا كانت الثقافة سلعة تخضع لمعايير الربح والخسارة أو خدمة يجب على الدولة توفيرها للمواطنين كالتعليم والعمل والملبس والمسكن، وقد شهدنا فى سنوات الانفتاح الاقتصادى بحقبة السبعينيات الدولة تقول إن الثقافة سلعة تخضع للعرض والطلب ولا يجب على الدولة أن تدعمها، وبناء عليه تم بالفعل فى السنة الأخيرة من حكم السادات، إلغاء وزارة الثقافة لأول مرة منذ بداية إنشائها بعد ثورة 1952، الى أن عادت مرة أخرى فى بداية عهد الرئيس حسنى مبارك، لذا فقد نص الدستور بشكل لا لَبْس فيه على التزام الدولة بكفالة حق المواطن فى الثقافة، كما نص أيضا على أن وصول المنتج الثقافى لجميع المواطنين دون تمييز هو أحد التزامات الدولة.

والحقيقة أن عدم التمييز فى حق المواطنين فى الحصول على المنتج الثقافى هو البعد الأهم فى مفهوم العدالة الثقافية الذى طرحه وزير الثقافة، وهذا يقتضى أن تلتزم الدولة - حسب نص الدستور - بأن يصل المنتج الثقافى ليس فقط للمواطن الذى يقطن سيناء أو مرسى مطروح أو النوبة، وإنما أن يصل أيضا إلى غير القادر على شراء الكتاب أو دفع ثمن تذكرة المسرح سواء كان فى العاصمة أو فى أحد الأقاليم القريبة أو البعيدة. إن مفهوم العدالة الثقافية الذى وضعه وزير الثقافة كهدف لسياسة وزارته هو فى جانب منه محاولة محمودة لتطبيق النص الدستورى الخاص بالحق فى الثقافة الذى ميز دستورنا الحالى عن سائر الدساتير السابقة، ويكتسب هذا المفهوم قيمة إضافية فى ظل هذا التلكؤ المعيب لبرلماننا هذا الذى يتجاهل مهمته الأساسية التى لا تعلو عليها أى مهمة أخري، وهى إصدار القوانين المطبقة للدستور والتى من شأنها أن ترسى دعائم المجتمع الجديد .

[email protected]
لمزيد من مقالات محمد سلماوى

رابط دائم: