رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
فإذا كان لابد من الكتابة عن حصوله على الجائزة؛ فالقراء يتوقعون منى ـ كما أظن ـ موقفا سلبيا تمليه على المقاييس والحدود المتعارف عليها.. لكن القراء الأعزاء سيرون أن موقفى من حصول بوب ديلان على جائزة نوبل للآداب هذا العام موقف إيجابى.. وهذا ما يمكن أن يثير استغرابهم لأن الجائزة مخصصة للأدباء كما قلت. وقد حصل عليها من قبل كتاب وشعراء ومفكرون يعرفهم العالم كله ويجمع على استحقاقهم من أمثال أناتول فرانس، وييتس، وبرنارد شو، وهنرى برجسون، وتوماس مان، وألبير كامو، وبيراندللو، وجان بول سارتر. فإذا ذهبت هذا العام لأحد المغنين؛ فهذا يثير الاستغراب، خاصة لدى الذين ينظرون لهذه المسألة من بعيد ولا يضعونها فى مكانها من الأحداث والتطورات التى عرفها العالم وعرفتها الثقافة، لاسيما فى المجتمعات الغربية. لقد تعرضت المقاييس الأدبية المتوارثة لهزات متتابعة توالت طوال القرن الماضى نتيجة للاكتشافات العلمية والتطورات الاجتماعية والعقلية التى كان لها تأثير قوى فى مضامين الأدب وصوره كما نجد فى الرمزية، والبرناسية، والدادائية، والسوريالية، والواقعية، وغيرها من المدارس والمذاهب التى عرفتها الآداب والفنون من أواخر القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن الماضى، حتى إذا اشتعلت الحرب العالمية الثانية وانقسم العالم إلى معسكرين تصارعا فيما بينهما وتصارع كل منهما فى داخله كما رأينا فى الهزات العنيفة التى تعرض لها المعسكر الشرقى فى المجر، وبولندا، وتشيكوسلوفاكيا، وتعرض لها المعسكر الغربى فى فرنسا فى انتفاضة مايو 1968 التى غيرت مناهج التعليم، وحررت المرأة، وأكدت سلطة المثقف الأخلاقية، وسمحت بإعادة النظر فى كل شىء. وفى الولايات المتحدة حيث ثار الأمريكيون السود بقيادة مارتن لوثر كنج ومالكو لم إكس مطالبين بحقوقهم المدنية، واشتعلت حرب فيتنام التى ألبت العالم كله ضد الولايات المتحدة ودفعت المثقفين الأمريكيين للوقوف ضد حكومتهم والتبرؤ من الجرائم التى ترتكبها باسم الدفاع عن العالم الحر، وخلال ذلك نشأت فى الغرب ثقافة جديدة تتجه لعامة الناس وتصور حياتهم اليومية وتعبر عن أحلامهم ومخاوفهم التى كانت تتجاهلها ثقافة النخبة، ومن هنا أطلق عليها اسم «الثقافة المضادة» أو ثقافة «البوب» اشتقاقا من الكلمة الفرنسية populaire أى شعبى التى ظهر فيها شعراء من أمثال ألان جينسبرج، وفنانون تشكيليون من أمثال أندى وارول، ومغنون من أمثال ألفيس بريسلى. وفى هذا المناخ الثقافى الجديد بدأ بوب ديلان نشاطه فى الشعر والتلحين والغناء فى الستينيات الأولى من القرن الماضى. لم يشتهر كشاعر.. لأنه لا يقدم نفسه للجمهور كشاعر ينظم قصائده وينشرها فى الصحف الأدبية والكتب كما يفعل معظم الشعراء فى العصور الحديثة، وإنما هو يغنى ما ينظمه من قصائد وقد تعود الجمهور أن يميز بين الشاعر والمغنى حتى لو كانت الكلمات التى يغنيها من تأليفه، وحتى لو كانت هذه الكلمات شعرا حقيقيا كما نجد فى أغانى جورج براسانس وهو شاعر فرنسى حصل على جائزة الأكاديمية الفرنسية فى الشعر، لكنه يحول قصائده إلى أغنيات يقدمها مصحوبة بعزفه على الجيتار. وكما نجد فيما يقدمه ألان جينسبرج وهو شاعر أمريكى معروف. وباستطاعتى أن أعتبر الشاعر الروسى يوجين أوفتشنكو مغنيا أو منشدا كما أعتبره شاعرا، وربما أضفت إليه مواهب أخرى ـ فهو يتحرك على المسرح حركة يجمع فيها بين أداء المغنى والممثل والراقص. ومن هنا حرصه الشديد على تقفية قصائده على النحو الذى يؤكد إيقاعاتها ويمكنه من تحويلها فى الإنشاد إلى أغنيات. ولو عدنا إلى العصور القديمة لوجدنا أن الشعر والموسيقى لا يفترقان. ومن هنا ميز النقاد بين القصيدة وبين الملحمة والمسرحية ونسبوها للغناء. والعرب حين يتحدثون عن أداء الشاعر لقصيدته يقولون إنه أنشدها. والشاعر اليونانى القديم بندار يخاطب قيثارته فيقول «إن الموسيقى والغناء، أى الموسيقى والشعر، يدمجان الأرض بالسماء». وفى هذا الضوء وفى هذا السياق نستطيع أن نفهم ما قصدته الأكاديمية السويدية حين منحت جائزة نوبل لهذا المغنى الشاعر بوب ديلان الذى استطاع كما تقول الأكاديمية «أن يخلق تعبيرا شعريا جديدا فى تراث الأغنية الأمريكية». ونستطيع نحن أن نقول إن الأكاديمية أرادت بجائزة هذا العام أن تذكر الشعر بأصله من ناحية وتؤكد علاقته بالموسيقى، وأن تعيده من ناحية أخرى إلى الجمهور الواسع الذى يجتمع حول بوب ديلان بعشرات الآلاف فى الوقت الذى ينحسر فيه الجمهور القارىء. لكن السؤال الذى لابد أن نطرحه فى البداية والنهاية هو: ماذا يقول هذا الشاعر المغنى فيما ينظمه من كلمات؟ لا أستطيع أن أجيب بثقة كافية عن هذا السؤال، لأنى لم أقرأ من كلماته إلا المقتطفات التى نشرت فى بعض الصحف الفرنسية، ومنها على سبيل المثال هذه السطور من قصيدة أو أغنية سماها «إنه مطر صعب ذلك الذى سيسقط» وحذر فيها من الأخطار التى تنذر بالحرب: أوه، أين كنت إذن يا ولدى ياذا العينين الزرقاوين؟ أوه، أين كنت إذن يا بنى العزيز؟ لقد سرت أتعثر على حافة إثنى عشر جبلا معتما. سرت وزحفت على ست طرق مقطوعة. اخترقت سبع غابات حزينة. وجدت نفسى أمام إثنى عشر محيطا ميتا اندفعت عشرة آلاف ميل فى فم مقبرة وكان صعبا، كان صعبا، المطر الذى سيسقط! شعر.. لكننا لا نستطيع أن نقدر قيمته لأنه كلمات فقدت صوت المغنى وصوت الجيتار المصاحب بعد أن فقدت بالترجمة من الإنجليزية للفرنسية ومن الفرنسية للعربية صوتها، فلم يبق منها إلا هذه الصور التى تقدمها عن عالم مهدد بالكارثة، لم يبق فيها إلا الأرض التى انفصلت عن السماء! لمزيد من مقالات أحمد عبدالمعطى حجازى