لا أستطيع أن أنسي «أوليفيا»، زميلتي في الدورات التمهيدية للدكتوراه بجامعة لندن.. كانت الأكثر دأباً والتزاماً ومرحاً داخل قاعة الدراسة، وكان عمرها في ذلك الوقت 85 عاماً.. حين صرّحت بذلك في إحدي الألعاب التدريبية، سألتها مندهشاً: لماذا تدرسين للدكتوراه؟ فأعادت عليّ نفس السؤال: لماذا تدرس أنت للدكتوراه؟ قلت: لأكتسب مزيداً من المعرفة، وأنقلها للآخرين! فبادرت بتكرار نفس العبارة: وأنا أيضاً أدرس للدكتوراه لأكتسب مزيداً من المعرفة، ثم أنقلها للآخرين!
لم أعرف حينها كيف قضت «أوليفيا» سنوات عمرها السابقة علي هذه الدراسة، لكن تجاوبها مع المدربين والمحاضرين، وحواراتها في فترات الراحة مع زملاء الدراسة، كانت توحي بأن لديها خبرة علمية وعملية طويلة.. كان الأساتذة والطلاب يصغرونها بنصف قرن علي الأقل، لكنها لم تتخل عن تواضعها للعلم داخل قاعة التدريب، وكانت تبرر سعادتها الغامرة في نهاية كل جلسة، بعبارة صرنا نرددها معها بمرور الوقت: لقد ازداد عمري بدرس اليوم مائة عام!
أتذكر «أوليفيا» دائماً حين أستشعر الحاجة الماسة لإحياء ثقافة التدريب في مهنتنا، التي تعاني من غياب المعايير والضوابط والأخلاقيات، ثم يصدمني شعور بعض الزملاء ــ خاصة كبار السن منهم ــ بالإهانة حين تدعوه للانضمام إلي دورة تدريبية في مجال جديد! يتصور أن الدعوة تنطوي علي اتهام له بالجهل! يفضل الاستمرار في أخطائه المهنية عن تصويبها علي يد الخبراء! يستكثر الاعتراف باحتياجاته التدريبية، ظناً أن هذا سيحط من منزلته في سوق العمل!
لم تكن نيتي إحراج هؤلاء في جلسة الإعلام بمؤتمر الشباب حين طرحت عليهم سؤالاً مصيرياً عن استعدادهم للعودة إلي مقاعد التدريب.. كانت الدعوة ارتجالية دون سابق تخطيط، دفعني إليها الخلاف علي المنصة حول وظائف الإعلام، ودور المذيع، والحدود الفاصلة بين الرأي والخبر، وهذه مفاهيم بديهية في الإعلام عند من يلتزمون بقواعد وأخلاقيات المهنة.. من العيب أن نحتكم فيها اليوم لوجهات نظر شخصية، بينما مضي علي إرسائها وتطبيقها في صحافات العالم عشرات السنين!
كذلك لم أكن أقصد من الدعوة أن يجلس الزملاء أمامي لألقنهم دروساً في الأخلاقيات.. كنت - وما زلت - أحلم بأن يحظي زملائي بفرصة الاستماع إلي خبرات أصيلة كالتي يمثلها الأساتذة مكرم محمد أحمد وصلاح منتصر وحمدي قنديل، إلي جانب الاستفادة من تجارب عالمية كالتي يملكها تيم سيباستيان وهوارد شتيرن وكريستيان أمان بور.. العالم يلهث خلف قطار التكنولوجيا المنطلق علي قضبان القيم والمعايير، ونحن ما زلنا نتلكأ في الدخول لقاعة التدريب، ونفتعل عشرات الحجج لتبرير استعلائنا علي المعرفة!
في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) - حيث عملت 5 سنوات - يتم اختيار الموظفين الجدد بناءً علي معايير ومؤهلات محددة، بعيداً عن الوساطات والمحسوبيات والمصالح، ويبدأ التدريب من اللحظة الأولي لاستلام الوظيفة، ولا يقف المذيع مطلقاً أمام الكاميرا، قبل الانتهاء من المرحلة الأولي للتدريب، والتي يطلق عليها upfront وتستمر عدة أسابيع، بهدف برمجة و«تجنيد» الإعلامي وفقاً لقيم الـ (بي بي سي)، وهي: المصداقية، والاستقلالية، والحياد، والأمانة، واحترام الجمهور، والإبداع، والتنوع، وروح الفريق..
لماذا لا نرقي لهذا المستوي من المهنية والاحتراف؟ ما الذي يمنع من إثبات ريادتنا بالإقبال علي التدريب، وترميم خبراتنا الناقصة، وإنعاش الذاكرة بالأساسيات التي لم نحسن دراستها بالجامعة، ومواكبة التغيرات الحرفية والتحريرية والأخلاقية التي طرأت علي صناعة الإعلام، وحسم الخلاف الأزلي حول حدود الدور الذي يضطلع به المذيع علي الشاشة؟
إنني أجدد الدعوة لزملائي الذين لا يخجلون من الاعتراف بوقوعهم في العديد من الأخطاء المهنية الفادحة خلال السنوات الأخيرة، والذين يتفقون معي في أن نقص أو انعدام التدريب في مؤسساتنا الإعلامية هو السبب الرئيسي وراء هذه الأخطاء، أن يتحلوا بالنزاهة والشجاعة والتجرد، ويتخذوا خطوة تاريخية لإنقاذ سمعة وتاريخ المهنة، بالالتحاق ببرنامج تدريبي في شكل مائدة مستديرة، تشرف عليه هيئات لها احترامها في المهنة محلياً وخارجياً، يقوم علي محورين: المحور الأول يتضمن مناقشة حول قيم ومعايير المهنة، والمحور الثاني يغطي كل ما هو جديد في صناعة وتكنولوجيا الإعلام، علي أن يدير الجلسات خبراء وأساتذة مخضرمون من مؤسسات إعلامية مشهود لها بالمهنية والتجربة الطويلة..
كما أقترح أن تخصص الدولة جائزة مناسبة للإعلامي الذي يواظب علي الاستفادة بجدية من هذه الفرصة التدريبية، ويبرهن علي ذلك من خلال أدائه علي الشاشة أثناء وبعد الانتهاء من الورش والدورات، علي أن يقوم المدربون بالرصد والتقييم، ومعهم نخبة من أصحاب الخبرات وبعض أفراد الجمهور، الذين يمثلون فئاته الاجتماعية والعمرية والجغرافية المتنوعة، وذلك علي غرار مجالس الجمهور التي تتبع مجلس أمناء الـ (بي بي سي)، ويتم تعيين أعضائها كل 3 سنوات، لإمداد المؤسسة بملاحظاتهم حول كل ما يقدم علي شاشاتها وفي محطاتها الإذاعية.
هذه مجرد مبادرة تخلو من أي مصلحة لاستعادة ثقة المشاهد! وهي تقوم علي التطوير وليس التطهير! نستطيع في مدة قصيرة أن نستعيد الريادة إذا كانت لدينا الإرادة! خطورة هذه المهنة في أنها تخاطب الوعي، وإذا أردنا أن نرقي بوعي المجتمع، فلنبدأ بأنفسنا..
أثق في أن الاستجابة لمثل هذه الدعوة ستترك أثراً هائلاً علي الأداء العام في الإعلام المصري، وستغير الكثير من المفاهيم، وستغرس بذرة إصلاحية ستمتد ثمارها وآثارها عبر أجيال وأجيال..
«أوليفيا» التي لم تعبأ بنظرات الاندهاش في أعين زملائها الصغار، حصلت علي الدكتوراه بتفوق، وبعد سنوات قليلة اختفت، ولا أعلم شيئاً عنها منذ عشر سنوات، لكنها تركت لي درساً في التواضع أمام العلم والمعرفة، والحرص علي تطوير الذات حتي اللحظة الأخيرة.. نحن لسنا أقل من «أوليفيا»... > صحفى وإعلامى
لمزيد من مقالات د.محمد سعيد محفوظ; رابط دائم: