رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

بلبـل واحـد لا يصنـع ربيعـا

فى السياسة، كما فى الطقس، فإن العوامل المؤثرة فى أحداث الغد يمكن رصدها ومتابعة حركتها المتجهة الينا دون أن يكون فى ذلك تطاول على الغيب . فى أفق هذا المعنى وبالنظر الى الخريطة نجد حربا اخترعتها الولايات المتحدة الأمريكية،

لتدور على أرض العرب بأموال العرب بدعوى تحرير العرب فى غياب شبه كامل لنظام العرب، على أن تظل المنطقة التى دارحولها التاريخ الانسانى المكتوب تتشظى وليس أمامنا إلا أن نختار بين أن نكون «دُمية» أو نكون «جُثة» . مأساة كونية البطل فيها هو الموت والشيطان الأمريكى هو الذى يرعاه ويسهر عليه ويتعهده ويكشف عنه ويطلقه أيضا، وهو الذى يشعل الأرض نارًا من «مراكش» إلى «صنعاء»، فإذا الموت مبثوثاً فى الهواء العربى .والسؤال ما النتيجة من وراء سياسة الولايات المتحدة على العرب وعلى المنطقة, ورَاءالتاريخ وتحت المستقبل وعلى الرغم من أن عاصفة الدمار وقوة اندفاعها الهائلة قد لا تسمح بالتنبؤ عن جو المستقبل، فإن مصر كان لديها وعى إستراتيجى مبكر بما سوف يجرى فى الغد من تآمرعلى تفتيت وتقسيم الأرض بل والتواطؤ للسطو على الفضاء وخطفه أيضًا. فكانت الضرورة قصوى فى ظل هذا الدمار الكونى المروع أن يكون لدينا جيش مصرى وطنى قومى قوى قادر على حماية الأمن القومى العربى، ويستطيع أن يواجه معارك مصير مع من يرسمون خرائط جديدة للإبادة. ولقد تفرّد جيش مصر العظيم عن سائر جيوش الدنيا بأنه جيش يعيش فى أنفاس شعبه وشعبه يحفظ قيمته، كما يحفظ المستقبل عن ظهر قلب، جيش هو نفسه الشعب صامد بالبطولة مُسلحًا بيقظة الارادة الموحّدة، وعِظم المسئولية التاريخية على نحو باهر ومدهش، وهو يتحرك بقوة تدب فيه، آتية من الغيب وتلك هى ومضة الاعجاز، ضاعف من قيمته أنه هو الجيش الأقدم منذ ظهور فكرة الدساتير وكتابتها، حامى الشرعية الوطنية وحامى الأمن القومى المصرى بمعناه الاستراتيجى الشامل. أقول ذلك وفى خواطرى وأمام عينى أولئك الساهرون الذين يقيمون مع الفناء على الحدود، ويملكون جسارة الامساك بمصائرهم ومقاديرهم ويعيشون دنياهم وحسابهم ليس على ما هوت نفوسهم، وإنما على ما ارتفعت اليه هممهم، يعيشون لشىء أكبر من أنفسهم ويتحملون مسئولياتهم بنوع من الشجاعة والقداسة، كلما دنونا منهم تبين لنا عِظم هؤلاء ومهابة هؤلاء. إن حجم ما ينجزه أبناء قواتنا المسلحة على الأرض هو اعجاز يومى يتجاوز كل معدلات التقدير وأن كل مراكز التفكير الاستراتيجى تدرك حقيقة هذا الانجاز وتقدر قيمته وهو ما يجعل دورهم دائما محفوظا فى ذاكرة الأمة . غير أن هذا الجيش المصرى العظيم يتعرض فى هذه الفترة لواحدة من أسوأ حملات الاساءة والتشكيك والتضليل للنيل من قدرته وقداسة دوره الوطنى ولم تكن موجات الاساءة هذه الا صدمة للحقيقة تعكس مدى الانحلال الأخلاقى والانحطاط السياسى «لسقط متاع» الصحف «والمُنتفخَة جيوبهم» بأموال غيرهم الذين تخصصوا فى تسويد الصورة وقلب الحقائق وتشويه الانجازات وتسويق الفِتَن وتعبئة النفوس باليأس والاحباط ووضع العراقيل أمام مسيرة شعب خلاق مُصِرّعلى أن يقطع المسافة من الأرض صعودا بإرادته للسير بمحاذاة السحاب . يزيد من قتامة صورة الراكعين تحت نعال بعض ملاك صحف وقنوات خاصة وأصحاب أموال أنهم تركوا أنفسهم « يَستخدِمونهم» كقذائف لهب فى وجه الوطن ، تجد كُثُر منهم على صحف خاصة تائه فى اللغة يعتمد على ألفاظ مُجَرّمة تخدش حرمة المعانى، ثقافته لغو فى الثناء والهجاء لا يريد أن يَعرف، أويتعَّرف،أويَعتَرِف. ومما يزيد الأمر سوءًا أنهم وضعوا مصالح صغيرة آنية ومخطوفة فوق صالح الوطن والعمل على إبقاء الأزمة مفتوحة تتجدد وتتنوع ، وأمام لبس يتدفق يعيش كل فرد منا عذاباته منفردًا، وهكذا نتحول الى شخصيات مُخَدّرة بالواقع التلقائى . لقد توافقت مصالحهم وتمركزت مطامعهم على أن يظل الشعب جريحًا كسيحًا قعيد الهمَّة مسلوب الارادة . ولقد ضاعف من خطر هذا التحالف أن أحجموا بحقدهم عن الاستثمار فى بلادهم بل راحوا يضغطون بِغِلهم على غيرهم خارج بلادهم لعدم الاستثمار على أرضهم . مؤدى ذلك أن ما لدينا هو اعلام بدائى متخلف عن العصر يتردَّى فى مستنقع من الضَغائن ومحيط من الأحقاد والرماد يستهدف وعى البسطاء ويسهم على نحو كارثى فى تعميق جراح الوطن وانشقاقه وهو يعتمد على صور تقدم نفسها كأنها الأصل تحل محلّه كأنها بديل له، وفى الوقت نفسه تشير الى غيابه، فيه كاذب على نفسه يَغِش حتى عَينه وهو يقدم برامج منقولة ومُقَلدَة تتشابه بالاستعارة من تاريخ وآخر ، وغافل بالعمد باهت داخل الكتابة، كل منهم يُمثّل بمفرده « نسخة ميتة لأصل حىّ» أما آن لهذه الفترة السوداء من تسميم جذور التفكير أن تُمحى قبل أن تعصف بنا ظروف طارئة تجرنا جميعا وراءها لاهثين بحيث تنفك السفن عن مراسيها وتأخذها الرياح الى بعيد فى اتجاه مياه بلون الغرق. إن الصبر لم يبق له مجال يحتمل الاستمرار أمام لبس يتدفق ينال كل يوم من وعى الناس بل ومن أعمارهم أيضًا. إننى لم أجد بديلًا لتعبير الدهشة فى وصف ما يجرى من تشكيك وانفلات فى الاعلام الخاص المرئى والمقروء. لقد أضاف بهلوانات اللغة وهواة القفز فوق أسوار البيان إلى فنون المسرح ظاهرة جديدة هى «مسرحة الفوضى» فهناك آلات تعزف وطبول تَدُق وأضواء وألوان وستائر مزركشة من القطيفة الحمراء وخلفيات من الديكور تظهر وأناس يروحون ويجيئون ويرقصون على خشبة المسرح وأصوات متنوعة الطبقات، واللهجات لكن المشكلة أن ليس هناك «موضوع» بل ليس هناك «نَصُّ» إنها «المسرحة بدون مسرحية» وأمام صدمة الحقيقة بدأ يكتشف جمهور المتفرجين حقيقة أنه ليس أمامهم إلا مؤثرات بالصوت والضوء أمام عيونهم وفى آذانهم لكنها مؤثرات بلا موضوع وبلا نص !

قبل أن يتبوأ الرئيس مقاليد حكم مصر ساهرًاعلى ادارة شئونها كان تسعة وتسعون بالمائة من أوراق أهم قضايانا ليست فى يدنا وكان معنى ذلك أن ارادتنا لم تعد عنصرًا فاعلاً فى تقرير مصائرنا وهذا بدوره يعنى أننا هاجرنا من التاريخ . وهو حين وقف وأعلن أن : أدبيات السياسة الأمريكية عبر ثلاثين عامًا غير مُلزمة فى الوقت الحاضر كان يضع مصر على مكانها الطبيعى وسط أمته وفى العالم والعصر مؤكدًا فى هذه اللحظة أنه قد أمسك بالقرار الوطنى فى قبضة يده ، ثم راح بعد ذلك يثبّت هذه اللحظة التاريخية على الخريطة الادراكية وفى ذهن العالم المتحضر داخل قاعة الأمم المتحدة مستعيدا روحها بكل ما فى ذلك من حِس وطنى وانسانى ونبض مؤكدا للمُؤكد وهو أن مصرليست واحدة من الشخُوص التى يتسلّى بها التاريخ أحيانًا فيما بين فصول أحداثه الكبرى وأن أمنها القومىّ ليس قصصا يكون للمؤلف فيها حق رسم الشخصيات وإجراء الحوار على ألسنتها، معبرًا عنه شارحًا لفكره ، وأن مصر ليست وجهة نظر بل إن اليوم لشعاع الشمس ضوء آخر .

جزء كبير من مقاومة الفوضى «موت مؤجل»، وعلى برلماننا الموقر أن يدرك أن طوفان الفوضى فى الاعلام لم يقتصرعلى أصحابها، بل من فرط شدة فيضه سال على سائر أجهزة الدولة وأدى الى آثار بعيدة المدى على مجموعات القيم والمعايير والعلاقات. لدينا أزمة تنتظر قانونا معطَلا ومن قانون فعل الأزمات: «اذا لم تجد أزمة من الأزمات من يديرها فإن حركتها لا تتوقف وإنما هى تواصل دورتها بحركتها الذاتية متجاوزة نهاية الطريق». إن سرعة انجاز التشريعات عمل وطنى، وأن على بعض النواب الحرص على ألا يتحول كل حوار الى صدام وكل مناقشة الى فرقة تعيد نفسها، لتظل الحلقة المفرغة هى سيدة التاريخ وأننا نظل لها طائعين خاضعين، وإذا فعل التاريخ وكرر نفسه فهو فى المرة الأولى «دراما كبير» وهو فى الثانية صانع «مهزلة» والمهازل لا تحتاج الى أوصاف تقيس حجمها ومدى تأثيرها المشهود أمامنا أن هناك حاجة لضبط خلل واضح فى لغة بعض من يتكلمون .

لمزيد من مقالات د. محسن عبدالخالق

رابط دائم: