رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

جمهورية «الفيس بوك» وشعبها

قبل عامين سأل أحد خبراء شبكة الانترنت هل تعرفون ما هى أكبر جمهورية فى التاريخ؟ أجاب الكثيرون إنها الصين صاحبة 12 مليار نسمة، وأجاب آخرون ربما الهند لأنها تقترب من الصين. كلتا الاجابتين كانت خطأ، فأكبر جمهورية هى «الفيس بوك» إذ يزيد عدد سكانها على مليارى نسمة وهى فى زيادة بمعدلات غير مسبوقة. طبعا تعبير السكان هنا هو تعبير مجازى والمقصود هو عدد الذين لديهم حسابات فى هذا التطبيق الفريد، وهم من كل الجنسيات والأعراق والملل والأديان، ورغم ما بينهم من اختلافات وتمايزات من حيث الثقافة والتنشئة ومستوى التعليم والدخل، إلا أنهم يشتركون فى سمة واحدة وهى تعلقهم اللحظى الشديد بهذا التطبيق الذى يوفر لهم فرصة المشاركة فى الحوار العام دون وصاية أو قيد.

قبول طلبات الصداقة فى جمهورية «الفيس بوك» هو الطريق الأقصر لتكوين الروابط الافتراضية والشعور الفورى بأن هناك من يهتم بك ويبادلك الرأى فى شأن مشترك، من ثم تتشكل بأقصر مجهود تفاعلات جماعية تتيح إبداء الرأى بأسهل طريقة، تستند الى التعاطف الفورى أو الرغبة فى إثبات الذات. وكل ما هو مطلوب مجرد هاتف ذكى وخط يسمح بالتواصل عبر شبكة الانترنت. ومع تكرار طلبات الصداقة وقبولها بضغطة زر حتى بدون معرفة الحد الأدنى من المعلومات المناسبة عن هذا الصديق الوافد الذى سأفضى إليه بآرائى وأسرارى وأشاركه كثيرا من شئون حياتى الخاصة، وأفصح له عن صور زوجى وأبنائى وكل ما يتعلق بهم من يوم الميلاد إلى المدرسة التى يتعلمون فيها والعروس التى كانت خطبتها أو عرسها بالأمس، أو الطفل الوافد كابن أو حفيد أو ابن لقريب أو صديق أو جار مقرونا بصور وكلمات وأوصاف. فالمهم أن أوفر معلومات عن تحركاتى وسفرياتى وعلاقاتى وآرائى فى الحياة والدين والسياسة والاقتصاد والفن بالتفصيل الممل.

فى جمهورية الفيس بوك، ليس المطلوب أن يكون لك رأى وكفى، بل لابد أن يكون رأيا جاذبا لتعليقات المعجبين، كانت الآراء والتعليقات ممزوجة بالسخرية أو غريبة الكلمات أو مشحونة بالعاطفة، كلما نالت مشاركات اكثر أو إعجابا أكثر مما يعطى الثقة بالنفس، لكن كما توفر مشاركاتك المعجبين يمكن أن توفر ايضا ناقدين ورافضين وكارهين وشتامين بأحط الكلمات، وما عليك سوى ان تنهى علاقة الصداقة او تبادل الشتم بمثله. وكل ذلك وليد اللحظة، مما يجعل الحاصلين على جنسية «الفيس بوك» سريعى الغضب ومستعدين دائما للرد فى اى لحظة ومن أى مكان. فلا يهم التوقيت أو الموقع، المهم ان يكون لك كلمة وموقف.

فى جمهورية زالفيس بوكس تتشكل قوى الضغط إما عفوا بدون ترتيب مسبق وبسبب وحدة الفكرة وتقارب الرأى، أو قصدا ونتيجة تخطيط وترتيب تتوزع فيه الأدوار بغية إلحاق الهزيمة النفسية فى المخالفين ومن يعتبرون الأعداء المقصود إلحاق الأذى بهم، وبدلا من ان تكون الجمهورية الجديدة موطنا للتعارف والتآلف الانسانى، اصبحت موطنا للصراع والخداع والنميمة والكذب المنمق، فمن يريد إلحاق الأذى بالغير هو طرف غير محدد المعالم، وهنا تتجسد خطورة الشفافية الزائدة والثقة المفرطة بالنفس التى يتحلى بها بعض منتسبى الجمهوية الافتراضية، مما يجعلهم فريسة سهلة، وسريعا ما يقعون فيما يجب الحذر منه ويدفعون لاحقا ثمنا غاليا.

فى هذه الجمهورية الفريدة يمكن لمنتسبيها أن يصوغوا دينا جديدا اطلق عليه البعض الدين الفيسبوكى، حيث يصبح اكتساب الحسنات يسيرا من خلال كلمة إعجاب أو جملة قصيرة لن تكلفك شيئا، ولايهم فى هذه الجمهورية ان تعمل ما عليك من فرائض ونوافل، أو تتفقه فى دينك او تقرأ من كتابك المقدس، فقد تقزم الفعل الدينى الفيسبوكى وأصبح مجرد كلمات عابرة تكتبها معجبا بدعاء أو بجزء من آية أو بحديث قدسى أو بصورة غريبة من الطبيعة. إنه أسلوب جديد ويسير للحصول على المغفرة والحسنات، وإلا وقعت فى المحظور، فمن لم يبد إعجابا، فلن يدخل الجنة، هكذا مباشرة، وفى الدنيا سيتعرض حتما لعقاب فورى وسينزل عليه البلاء أنواعا ودرجات. لقد صار بعض الفيسبوكيين يعلم الغيب والعياذ بالله.

شعب الفيسبوك هو شعب مرح فى غالبيته، ويبادل السخرية بمثلها أو أكثر، وهو شعب يفهم فى كل شىء ويفتى فى أى شىء، لا تخصص فيه، ولا علم فيه ولا قراءة ولا معامل ولا ذهاب إلى مكتبات أو حضور محاضرات للعلماء والاساتذة، فقط الاطلاع على تعليقات المنتسبين للجمهورية فى أى فرع كان، والتشارك فها وإفساح المعرفة بها لأكبر عدد بدون تحفظ أو مراجعة أو إعمال لفتوى القلب. فالمهم هو سرعة الاستجابة وكأن المرء فى سباق مع الزمن.

العمل فى هذه الجمهورية لا قيود فيه البتة، فلا شهادة علمية معينة، ولا خبرة عملية محددة، اللهم خبرة فتح الحساب والتعامل مع الصور ورص بعض الكلمات ورفع مقاطع الفيديو وكليبات الأغانى، وهى خبرات يسيرة لا تتطلب تعليما ابتدائيا أو جامعيا، المهم الرغبة فى الحصول على الجنسية الفيسبوكية وهاتف ذكى مناسب. ولذا لابطالة فى هذه الجمهورية الطوباوية، فالكل يعمل حسب طاقته وكفاءة النظر لديه. وفي هذه الجمهورية لن يصرح مسئول فيها بالقوى العاملة، كما حدث بالفعل فى مصر، انه تم توفير 213 الف وظيفة مهنية لم يتقدم لها سوى 180 الفا فقط، ومع ذلك يرى شبابها ـ أى مصر ـ أنهم لا يجدون فرصة عمل. كما ان جمهورية الفيس مجالها الجغرافى والزمنى بلا أفق معين، ففى أى مكان يمكن أن تزاول جنسيتك بيسر ودون صخب، سواء فى المنزل أو الشارع أو المواصلات أو فى الصحراء أو فى المصنع. أما أفضل بيئة عمل فهى المقهى المنصوب فى عرض الشارع وفوق الكراسى البلاستيكية المرنة وبجوار شبابيك المنازل وأمام أبوابها. ففى لحظات الانهماك لا تهم حقوق الناس أو يُطلب مراعاة الخصوصية أو رفع الأذى عن الطريق. وكم تسهل مصر جنسية الفيسبوك إذ فيها مليونا قهوة مسجلة، و15 مليون أخرى غير مسجلة، غير الكافتيريات والمولات والنوادى الاجتماعية فى طول البلاد وعرضها.


لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب;

رابط دائم: