رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

نادية لطفى وشيمون بيريز والمسافة بين الضمائر

«مدهشة هى ذاكرة الإنسان». هذا ما همست به لنفسى حين قرأت نبأ الجلطة الكبيرة فى دماغ شيمون بيريز التى أدت إلى وفاته،

تاركا خلفه رحلة مشاركة فى تجسيد الوهم كما قام صديقى قدرى حفنى بوصف الدولة العبرية فى دراسة نحتاج جميعا إلى إعادة دراستها . وتزاحمت فى رأسى تذكارات زيارته هو وشارون إلى القاهرة ، فحين نزل شيمون بيريز للقاهرة كان المقاتل يوسف صبرى أبو طالب محافظها ، وكان مدخل القاهرة مع كثير من أحيائها الشعبية يجد اهتماما منه بأدق التفاصيل؛ وكان سؤاله لشريف بسيونى رئيس الجمعية الدولية للقانون الجنائى الدولى «ما السر فى سيطرة محافظ القاهرة على مدينة يديرها بهذا النظام رغم كثافة السكان ؟». ولم يجبه شريف بسيونى المصرى الجذور الأمريكى الجنسية إلا بجملة واحدة «يديرها واحد من مفجرى طاقات من يعملون معه ، وكان أحد قادة المدفعية فى حرب أكتوبر 1973 واسمه يوسف صبرى أبو يطالب» . وانتقلت الذاكرة من بيريز إلى شارون ؛ هذا الذى زار القاهرة بعد تولى يوسف صبرى أبوطالب منصب القائد العام للقوات المسلحة المصرية خلفا للمشيرعبد الحليم أبو غزالة ؛ وفرضت ظروف عمل يوسف صبرى ابوطالب استقبال شارون الذى بدا متبخترا وتتساقط من بين أصابعه دماء أطفال صبرا وشاتيلا ومذابح أخرى كثيرة ، وكان يناقش كثيرا من مرافقيه عن الثغرة ورغم أنه فى ضيافة مصر إلا أنه مضى يتبجح بأسلوب عبوره لضفة القناة ، ونقل المرافقون ما قاله ليوسف صبرى أبو طالب ، وما إن التقاه حتى سأله الفريق يوسف صبرى أبو طالب عن الجرح الذى أصاب جبهته فى قتال الثغرة واستدعى نقل شارون بأسرع وسيلة إلى إسرائيل، وأضاف له يوسف «لو استمرت الثغرة يوما أو يومين لما كنت معنا ، فتركيز المدفعية كان فعالا» . وهنا صمت شارون بقية الرحلة بعد أن نزعت عنه الكلمات ريش الطاووس. تذكرت ذلك حين جاء خبر جلطة مخ بيريز ، الذى بدا فى خيالى محاطا بجثث الفلسطينيين الذين استغاثوا بمعسكر قانا التابع للأمم المتحدة؛ فقتلتهم أوامر بيريز بلا تردد ، وقانا لمن لا يعلم هى التى تحمل فى التراث المسيحى كيف قام المسيح عليه السلام بتحويل الماء إلى نبيذ ، لكن بيريز شرب دما فلسطينيا كى يواصل رحلة تجسيد الوهم الصهيونى ، وحين ناقش بطرس بطرس غالى تلك الجريمة كان الفيتو الأمريكى وكانت كلمات مادلين أولبرايت محذرة له ساحبة صوت الولايات المتحدة من ترشيحه لفترة ثانية كأمين عام للأمم المتحدة .

وتقفز إلى الذاكرة ملامح نادية لطفى التى لم تتحمل آنذاك مسلسل الذبح العلنى للفلسطينيين، فسافرت إلى لبنان لتشارك وتضمد الجراح النفسية لمن نجوا ، كما سبق وفعلت ذلك فى معظم المعارك العربية ، فقد شاهدتها تعطى الكثير من الجهد لرعاية العائدين سيرا على الأقدام بعد هزيمة يونيو 1967 ورأيتها مشتعلة كضوء فعال لزيارة جبهة قناة السويس لتزور المقاتلين أيام حرب الاستنزاف ، ثم أضاء وجهها بالثقة فى النصر إبان قتالنا عام 1973 ، ولم تتوان لحظة عن الدعم المادى لأى أمر يتعلق بفلسطين ، سواء بلقاءات مع ياسر عرفات أو زيارة غزة ورام الله ، وتحفظ ذاكرتى صوتها المبحوح وهى تندد بعدوان شارون على صبرا وشاتيلا ، وتقوى من عزم من بقى على طريق ياسر عرفات الذى حمل غصن زيتون وبندقية متحدثا باسمهما من على منصة الأمم المتحدة بجنيف ، ورأت معى كيف أدمن الإسرائيليون كسر غصن الزيتون فى يد ياسر عرفات وكيف امتلكوا _ مع فساد مزاعمهم فى امتلاك حق فى فلسطين _ امتلكوا قدرة على أن يورث قادتهم بعضهم لبعض أحلاما متناسقة ، بينما نحن نكسر مجاديف قياداتنا تباعا ، فعمر إسرائيل سبعون عاما ، وبيريز واحد من آخر قادتها منذ الأيام الأولى ، أما نحن فقد أكلنا لحم قادتنا أحياء ثم أمواتا ، فعبد الناصر تلقى منا الاتهامات جزافا ، ولم نمتلك الميزان الذى نزن به الإيجابيات والسلبيات لنستبقى إيجابيات قادتنا لنزيدها ولنتلافى السلبيات .

أتذكر ذلك لأنه كان موضوع حوار بينى وبين الفنانة نادية لطفى عام 1973 بعد انتهاء القتال . واستمر هو الموضوع الأثير الذى نتناقش فيه فى المرات القليلة التى نلتقى فيها حتى ولو كان اللقاء مع الراحل الجميل يوسف فرنسيس أو الصديق الحبيب إيهاب شاكر الفنان التشكيلى النادر.

حين وصلت بى الذاكرة إلى تلك النقطة ؛ قمت مقررا زيارة نادية لطفى التى لم تسمح لحياتها أن تصبح صفحة ممزقة بين توتر إعلامى صاخب ، أو مغامرات لها رذاذ ضار ، ولم تفعل إلا ما تقتنع به وأفعالها تتسق مع ضميرها . وأخذتنى خطواتى إلى بيت الضمير العلمى الناضج الذى أسسه شريف مختار . أبتسم لنفسى متذكرا كيف قام د.شريف مختار أسس كلية جديدة بنقابة الأطباء تمنح كل طبيب متدرب من خلال برامجها عضوية أكاديمية الرعاية الحرجة الأمريكية ويقوم بالتدريس فيها واحد من أنجب تلاميذ شريف مختار هو الأستاذ الدكتور تامر فهمى خبير غرف القلب الأربع ، وسبب اختيار شريف مختار لتلميذه هو ان الأكاديمية الأمريكية تطلب مصاريف دراسية ؛ ولذلك احتفظ شريف مختار لنفسه بأن يدرس هو ومجموعة من تلاميذه الآخرين تدريب الممرضات والأطباء حديثى التخرج على نفس المنهج لإنقاذ أى مصاب ببوادر سكتة قلبية ؛مجانا مع إعطائهم شهادة محلية، بنفس المنهج العالمى . تعلم نادية لطفى أن واحدا ممن لم يدرسوا هذا البرنامج قام بإنقاذها بمحاولة مرتبكة لتدليك عضلة القلب فأعاد للقلب قدرة العمل من جديد ولكن بعد أن ترك آلاما مبرحة فى القفص الصدرى نتيجة الضغط غير المدرب .

منحتنى نادية لطفى خاتما رفيعا من الفضة تهديه لمن تحبه من أصدقائها. قبلت يدها متمنيا لها الصحة، وكانت جنازة شيمون بيريز على شاشة التليفزيون تحكى قصة الكذب العام الذى تجمع لوضع أحد قادة تجسيد الوهم تحت التراب .

نظرت إلى شريف مختار راجيا أن يتم إنتاج أفلام تليفزيونية صغيرة لتدريب البشر على إنقاذ أى مريض ببوادر سكتة قلبية.

وعلى باب كلية الطب أضاء وجه يعطى بسطاء القصر العينى أعلى قدر تستطيعه من الرعاية ، وهو وجه الأستاذة الدكتورة علا رجب ذات الضمير الذى لا يكل حالمة مثلى بأن يوجد فى كل قسم من أقسام كلية الطب مركز علمى يمنح المرضى نفس الرعاية التى يجدها أى مريض يلجأ لمركز شريف مختار بنقود محتملة او مجانا كما هى أغلب الحالات.

ومابين دفن أحد قادة تجسيد وهم إسرائيل وبين دعوات الشفاء لسيدة العطاء دون انتظار لثمن كانت رحلة ذاكرتى . فهل نملك طاقة لتنظيم العطاء بمقابل رفعة حياة المقهورين إلى مستوى إنسانى مقبول؟ أجبت نفسى : حين نفعل ذلك يمكننا أن نهزم تجسيد الوهم لنجعل الواقع مضيئا بتآزر نحتاجه كى تستمر الحياة .

لمزيد من مقالات منير عامر

رابط دائم: