رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

امتلاك الحداثة بديلا عن هجائها

تمثل العلاقة بين الإسلام والحداثة واحدة من أكثر عمليات التثاقف صعوبة وممانعة. فالتيار السلفى فى الفكر العربى يرفضها مبدئيا، أما التيار التوفيقى فقد ضل الطريق إليها عمليا، ولذا لم يبلغ غايته لأكثر من قرن ونصف القرن هى عمر مشروع النهضة العربية الثانية.

وبصورة أكثر تحديدا نحتاج إلى تعديل فى استراتيجية (النهضة) من مفهوم «التوفيق» (السكوني) إلى مفهوم «النقد التاريخي» (الجدلي)، وممارسة هذا النقد فى أفق تاريخى مفتوح، تتوازى فيه المرجعيات وتتفاعل الثقافات بشكل ديناميكى فيما بينها، أو مع حركة التاريخ، بدلا من تقنيم إحداها، وإحالتها إلى معيار تقاس عليه الثقافات الأخري. هنا يمكن مقاربة التراثين (الغربى والعربي) للكشف عن حجم المشترك الثقافى بينهما فى سيرورة تطورهما الذاتية، والآليات الخفية التى من خلالها تم التفاعل بينهما، وهو تفاعل كبير لم يجر بالضرورة مباشرة بين الطرفين فى قاعة تفاوض فندقية، بل تلقائيا مع الأبنية التاريخية والمفاهيم التأسيسية التى صاغها كل منهما فى حقبة تفوقه وريادته. وهنا يصبح عصر التدوين العربى حاضرا وملهما كما ان عصر التنوير الغربى حاضر وملهم، فيما يتكفل النقد التاريخى بمهمة تقييم مرتكزات الحضور، ومصادر الإلهام، وكيف استجابت، سلبيا وإيجابيا لمسار تطور العقل البشرى نحو الاستنارة والأنسنة والعلمنة، حيث الحضارة الإنسانية بنية تاريخية واحدة وإن تفاوتت المراكز الثقافية داخلها بين من ينتج الحضارة ومن يستهلكها، والخبرة الإنسانية مشتركة، لا يملك أيا من كان الانخلاع منها، أو النأى عن تيارها الأساسى حتى لو أراد. لقد آن الأوان إذن لامتلاك الحداثة عبر الاندراج فيها كتجربة إنسانية كبرى تعكس سيرورة تطور العقل البشري، وليست مجرد مغامرة خاصة بالعقل الغربي، مما يفرض علينا إما الوقوف عند حدودها دون مقاربتها، وإما محاولة تسولها.

عبر هذا المنهج يمكن الادعاء بنتائج مدهشة؛ فكل ما هو إيجابى فى الحداثة يكاد يكون إنسانيا، حيث الخبرة المشتركة تمثل مستودعا للحكمة التاريخية، تتراكم داخله القيم الإيجابية التى تنال إجماعات البشر ورضاهم حول ما يبدو وكأنه المحصلة الكيفية للفطرة الإنسانية، الأمر الذى ينفى حيثيات موقفين شديدى التناقض:

الموقف الأول هو الاستسلام لدونية حضارية ترى الغرب نموذجا مثاليا ومطلقا لابد من احتذائه حتى النهاية، واحتسائه حتى الثمالة، كما رأى التيار الحداثي/ العلموى الذى سطع مطلع القرن العشرين، داعيا إلى القبول بالغرب ملهماً لممارساتنا الكلية، وإلى اعتبار قيمه ومعاييره مرجعية نهائية لنا، وقوعا فى أسر الصورة المثالية للتنوير، والتى تتمتع لدى هذا التيار بقدسية كبيرة، تسكت عما يستبطنه تيار الوعى الغربى العقلاني/ الليبرالى فى تجاويفه من عقد استعلائية ونزعات عنصرية. ويكفى هنا أن نحيل إلى الركام الهائل لنزعة التمركز حول الذات، وما أنتجته من معارف متحيزة تقول بسموه الأخلاقى وتفوقه العقلى البدئي، ودنو ما سواه أو خارجه أخلاقيا، فضلا عن تخلفهم المطلق، مما أنتج تلك النزعة الكولونيالية الآثمة، التى لم يكد يتجاوزها بعد. وهو ما ينطبق أيضا على المثقف الغربى داعية الحرية والعقلانية والذى تنطوى مواقفه أحياناً على مفارقات تبدو مذهلة. فـ (ليبنتز) الفيلسوف الألماني، صاحب مفهوم المونادة الروحية، المفترض كونه مثاليا، هو نفسه الذى أراد تسخير الآخرين لخدمة أوروبا الصاعدة فى زمنه، فلم يتوقف عن الدعوة إلى استعمار الأقاليم المركزية فى العالم وضمنها مصر، التى حرَّض العرش الفرنسى طويلا على احتلالها، حتى جاءها نابليون باسم الثورة والجمهورية. أما (فولتير) أحد أنبياء الحرية ورواد التنوير الأوروبي، الذى نردد دوماً مقولته الشهيرة والرائجة عن استعداده لدفع حياته ثمناً لحرية مخالفه فى إبداء رأيه، فهو نفسه صاحب كتاب (الملك الشمس) الذى يسكب فيه ولعه وتقديره لملك فرنسا لويس الرابع عشر أحد أبرز نماذج الاستبداد الأوربى فى العصر الحديث وصاحب المقولة الأكثر شهرة «أنا الدولة» وهو موقف يذكرنا بمديح الشاعر العربى الكبير أبى الطيب المتنبى لسيف الدولة الحمداني، مما يكشف عن اختزالية الخطاب العلموي.

وثانيهما هو الادعاء بالخصوصية الحضارية المطلقة، هروبا من كل ما هو إنسانى ومعاصر. وهو موقف سلبى غالبا ما يصاحب الشعور بالهزيمة الحضارية، وما تثيره من محاولة الاختفاء خلف قشرة من التعالى الزائف على الآخر، حيث تصبح الحضارة الغربية (رغم تقدمها) نموذجا للخواء الأخلاقى فى مقابل الحضارة الإسلامية، التى تعد (رغم تخلفها) نموذجا للكمال الأخلاقي، وكأنهما سفينتان متعارضتان، لا يمكن ركوبهما معا، حسب وصف أبى الأعلى المودودي، الذى جسد الحد الأقصى للنزعة السلفية وتصوراتها (الاختزالية) عن الأخلاق الإنسانية. لدى هذه النزعة تتبلور رؤية نصية للإسلام أساسها القرآن الكريم، تتعامى عن واقعنا التاريخى الحى وما به من نقائص، بينما تتبلور رؤية للغرب أساسها النزعات المادية المتطرفة التى يزخر بها واقعه والتى اعتبرت بمنزلة تناقضات فى تجربة الحداثة، يقوم تيار كبير لديه على نقدها. والأكثر إثارة هنا أن يبرر العقل الأصولى ما يعتبره دنوا أخلاقيا غربيا بدوافع عقدية، أى لكونه مسيحيا، بينما يتم إهمال الروحانية المسيحية الكامنة فى النص، ويكفى الإشارة هنا إلى موعظة الجبل (متي، الإصحاح الخامس) التى تعكس أقصى درجات السمو الأخلاقى والتراحم الإنسانى ومن ثم تكمن سذاجة الخطاب الأصولى عن الذات والعالم.
[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: