هل تتعارض الأديان مع مفاهيم المواطنة والولاء وحب الوطن؟ وإذا كانت الرسالات السماوية فى مجملها تمثل دعوة إلى الحب والمؤاخاة الإنسانية ونشر الخير والتعايش بين البشر، فلماذا يجد الفكر المتطرف رواجا بين كثير من أبناء المجتمعات على اختلاف انتماءاتهم فيقتل ويدمر على أساس الدين والعرق واللون؟
وإذا كان أهل الديانات والأعراق المختلفة قد تمتعوا بحقوق المواطنة فى ظل حكومات إسلامية عبر تاريخ الإسلام، بدءا بدولة المدينة المنورة التى تأسست على دستور مكتوب اعترف بحقوق المواطنة لجميع المكونات الدينية والعرقية للسكان، فمن أين تأتى مقولات وفتاوى التنظيمات الإرهابية التى تقتل وتدمر باسم الدين.
رجال الدين الإسلامى والمسيحى وخبراء علم النفس والاجتماع، المشاركون فى مؤتمر «تحديات المواطنة ودولة القانون» الذى نظمته الهيئة الإنجيلية بمشاركة عدد من كبار علماء الأزهر والقساوسة يؤكدون أن الأديان لا تتعارض مع مفاهيم المواطنة والولاء والانتماء للوطن، وما يتضمنه من حقوق وواجبات. وان الجماعات التكفيرية أكثر من أساء إلى الإسلام. واعتبروا أن احد أسباب انتشار خطر هذه الجماعات هو التسهيلات والدعم الإعلامى الذى يحصلون عليه من بعض الدول.
وأكد المشاركون فى المؤتمر أن الولاء للوطن لا ينحصر على المواطنين المقيمين داخل حدود البلاد وإنما يبقى فى وجدان وضمير وسلوك الذين تضطرهم الظروف للإقامة فى الخارج حتى وإن حصلوا على الجنسية فى دولة أخري.
الحفاظ على مقومات الدولة
ويقول الدكتور محيى الدين عفيفي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، إن قضية المواطنة من القضايا المهمة بالنسبة للدول فى عالمنا المعاصر، لأن الانتماء إلى الوطن وفهم هذا الانتماء، يجعل المواطن حريصا على الحفاظ على مقومات بلده، ويجعله يشعر بقيمته وبدوره الوطنى والمجتمعي، ويُشعره بكرامته، حيث يتمتع بحقوق المواطنة ويحرص على أداء واجباتها.
وأضاف: إن المواطنة فى شكلها الأكثر اكتمالاً فى الفلسفة السياسية المعاصرة هى انتماء يتمتع المواطن فيه بالعضوية كاملة الأهلية على نحو يتساوى فيه مع الآخرين الذين يعيشون فى الوطن نفسه مساواة كاملة فى الحقوق والواجبات وأمام القانون دون تمييز بينهم على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الفكر أو الموقف المالى أو الانتماء السياسي، ويحترم كل مواطن إخوانه من المواطنين كما يتسامح الجميع رغم التنوع والاختلاف بينهم، ولذا فإن المواطن فى ظل المواطنة يشعر بالولاء التام للوطن هذا الولاء الذى يجعل المواطنين يعملون على حماية المقومات الدينية واللغوية والثقافية والحضارية والسياسية والاقتصادية، واحترام حقوق وحريات الآخرين والقوانين التى تنظم علاقات المواطنين فيما بينهم، وعلاقاتهم بمؤسسات الدولة والمجتمع.
وأوضح عفيفى أن الولاء للوطن لا ينحصر فى المواطنين المقيمين داخل حدود التراب الوطنى وإنما يبقى فى وجدان وضمير وسلوك الذين تضطرهم الظروف للإقامة فى الخارج لأن مغادرة الوطن لأى سبب من الأسباب، لا تعنى التحلل من الالتزامات والمسئوليات التى تفرضها المواطنة، وتبقى لصيقة بالمواطن تجاه وطنه الأصلي، حتى لو اكتسب الجنسية فى دولة أخري. ومن مقتضيات المواطنة الحرص على المصلحة العامة ولذا جاء فى الحديث الشريف «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس» فالمواطن الصالح لا يسعى إلى تحقيق رغباته وطموحاته على حساب المصلحة العامة وبما يضر بالآخرين.
وأشار إلى أن الإسلام دعا إلى فكرة المواطن العالمى ورفض جميع النزعات العنصرية والعرقية، كما أرسى مبدأ المواطنة وأقر الضمانات العملية القوية التى تجعل المواطن يتمتع بحقوقه ولم يفرق الإسلام بين مسلم وغير مسلم فى المعاملة انطلاقا من هذا المبدأ «لهم مالنا وعليهم ما علينا»، ولذا فإن الإسلام يرفض التعصب والانغلاق ويرفض الآراء المتشددة التى تتمسك بحرفية ما جاء فى بعض الكتب التى كتبت فى زمن غير زماننا, ومجتمع غير مجتمعنا وفى ظروف غير ظروفنا فتلك الآراء التى تعد غير مقبولة فى ظل تغير الواقع والظروف وقد قرر العلماء: «أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والظروف والحال».
وأضاف: إن الاتجاه المتشدد يمثل تحديا من تحديات المواطنة فى عالمنا المعاصر، فهو يُكفِّر المسلمين ويعادى غيرهم وقد أمر الإسلام ببرهم وإعطائهم كامل حقوقهم باعتبارهم مواطنين كاملى المواطنة، أما انتشار ثقافة التكفير فهى تهدد السلم والأمن المجتمعى، ولها جذور تكونت فى ستينيات القرن الماضى تبنت أفكار التكفير الشمولى لكل المجتمع بناء على قراءة خاطئة للنصوص والإخفاق فى إنزال النص على الواقع. وإرساء تلك المبادئ يجعلنا فى حاجة أيضاً إلى مواجهة التنظيمات الإرهابية التى باتت تستخدم الفضاء الإلكترونى بشكل مكثف من خلال استخدام عدة أنشطة خطيرة ومتنوعة ومستحدثة باستمرار لتغييب عقول الشباب ووعيهم القومي، مشيراً إلى أن استخدام المنتديات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعى فى تسويق الأفكار السلبية يُعد من أبرز التحديات للمواطنة حيث يتم الترويج للعنف والقتال تحت دعوى الجهاد والمحاولات المستمرة لتجنيد الشباب والتغرير بهم واستقطابهم إلى مواقع القتال ونشر الفكر الضال المنحرف بينهم.
مال وإعلام!
وأرجع د. محيى الدين عفيفي، ارتفاع وبروز الخطاب المتطرف فى السنوات الأخيرة إلى ما يصاحبه من زخم إعلامى ودعم مالي، وقد ركز هذا الخطاب على البسطاء من الناس ومن ليس لديهم حظ ثقافى وقام بـ«دغدغة» مشاعرهم وتغييب وعيهم. كما ألقى باللائمة على تقصير وسائل الإعلام ومؤسسات الثقافة ومناهج التربية والتعليم فى القيام بواجبها، فى مقابل انتشار وسائل ومواقع التواصل الاجتماعى والأفكار السلبية وتجنيد الشباب والتغرير بهم ونشر الفكر المنحرف مما يفرض علينا دورا مجتمعيا تتضافر فيه كل المؤسسات لرفع قيمة الوطن والمحافظة على الاستقرار وتبنى الإعلام البرامج الهادفة. وطالب وسائل الإعلام بالقيام بالدور المنوط بها وتجنب نشر بعض الصور السلبية التى تؤثر على جوهر المواطنة من خلال تضخيم ما يحدث من نزاعات طائفية نتيجة الفتن التى تعمل جماعات العنف والإرهاب على إشعال فتيلها، ولذا فإن الإثارة فى تغطية الأحداث يؤثر سلبيا على نفسيات المواطنين، ويشعر المتابع بأن الأمور متفاقمة وخطيرة.
رفض التدخل الأجنبي
من جانبه قال القس أندريه زكي، رئيس الطائفة الإنجيلية ومدير عام الهيئة للخدمات الاجتماعية، إن العيش المشترك بين شركاء الوطن ليس شعارا أو مجرد كلمات تُلقى إنما هو واجب وفرض على الجميع لابد أن ندفع آلياته للتحقق من خلال التأقلم والاندماج للوصول إلى المستقبل معا، وأمننا الحقيقى هو مع شركاء الوطن ولا أحد غيرهم، مشيرا إلى أن التوتر يدفعنا للتعامل بشكل أعمق وأكثر منهجية، وتأكيد رفض التدخل الأجنبى أيا كان والوقوف بصلابة مع يقينية أن مستقبلنا مع العيش المشترك ولا شىء غيره.
الولاء والأمانة
وعرض القس يوسف سمير، راعى الكنيسة الإنجيلية بمصر الجديدة، لمفهوم المواطنة من منظور مسيحى موضحا أنها تعنى الولاء والأمانة لكل أرض أو مجتمع يوجد فيه الإنسان ولا ترتبط بالمنشأ وإنما بالمبدأ الذى يحمله المواطن معه، مشيرا إلى أن من أبرز إفرازات ثورتى يناير ويونيو فوضى الحرية والتشدد الدينى وإطلاق التدخل فى حياة الآخر حتى صارت حريتى سجنا له!
غياب الرؤية
وفى سياق متصل تساءل د. قدرى حفني، أستاذ علم النفس السياسى بجامعة عين شمس: إذا كان التشدد كريها ومُنفِّرا فلماذا يتبناه البعض؟ مندهشا من أن المشكلة الأكبر تقع فى كون هذا المتشدد له جاذبية تفوق جاذبية المعتدلين الوسطيين، بل إنه كلما زاد تشدده التف حوله جمهور أكبر، موضحا أن المتشدد لا يتحرك فى فضاء فارغ بل يوجد فيه جمهور ولا يخلقه هو وإنما يجده جاهزا لتطرفه! مشيرا إلى أن مصطلح المواطنة يعد حديثا علينا والجدل يثار حول اعتبارها من محدثات البدع أم النافع؟!
وأضاف: إن لدينا نحن المصريين 3 انتماءات: لمصر، وللدين، وللعروبة.. ولا بأس من ذلك لكن المشكلة فى ترتيبها، والمواطنة الحقة تقتضى الانتماء للوطن الذى يسبق أى انتماء آخر حتى لو كان عزيزا علينا، ووحدة الوطن والدفاع عنه تقتضى إلى جانب ترتيب الانتماءات أيضا ترتيب المخاطر، فهل نحن أجمعنا أمرنا وكلمتنا على أن الخطر الأكبر الآن هو التطرف والإرهاب أم الإلحاد أم المد الشيعى أم اضطهاد المسيحيين؟ وكلها أفكار، لكن حين تتشتت اهتماماتنا تضعف قدرتنا على التماسك فى مواجهة التحديات والمخاطر.
رابط دائم: